في اجتماعاته في بيروت، كان الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان مستمعاً غالبية الوقت. إذا كان الاجتماع ساعة، استمع خمسين دقيقة وتحدّث عشراً. تفاعل إيجاباً مع كل ما سمعه من أفكار، مسجّلاً الملاحظات. لم يكن يقرأ من ورق مكتوبة، لكنه ردّد في كل الاجتماعات تقريباً أفكاراً رئيسية، منها:
– «لا يمكن للرئيس المقبل للجمهورية إلا أن يكون توافقياً». وهي عبارة بسيطة بالنسبة إلى البعض وتتناغم مع ما يردّده السياسيون عن وجوب الاتفاق، لكنها تتناقض في واقع الأمر مع كل الاعتقادات الدفينة المراهنة على فرض رئيس أو كسر فريق. وإذا كان لودريان قد كرّر عبارته الأولى في كل الاجتماعات، فإن فريق السفارة في بيروت، كان يتولى «لبننة» العبارة أمام الحاضرين بالقول: «رئيس لا يمثل انتصاراً لفريق على فريق؛ رئيس يكرس معادلة لا غالب ولا مغلوب، رئيس يترجم نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة».
خلال اجتماعه مع النواب «التغييريين»، مثلاً، استمع لودريان بإيجابية إلى نظرياتهم بشأن الإصلاح والتغيير و«المشروع»، قبل أن يلفت نظرهم إلى أن الانتخابات الأخيرة منحتهم 12 نائباً وليس 65 أو 128؛ وهذا يعكس توازنات شعبية وسياسية يجب التعامل معها بواقعية. مع العلم أن «التغييريين» كانوا في هذا الاجتماع متناغمين بعضهم مع بعض، ولم يناقض بعضُهم بعضاً في الطروحات.
– «على اللبنانيين أن يتحاور بعضُهم مع بعض»، تكراراً لما حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يفعله منذ مبادرته الأولى حين تصدّى لبعض الطروحات البطولية ونبّه بعض المجتمعين معه (تحديداً سامي الجميل وسمير جعجع) في قصر الصنوبر إلى وجوب التوقف عن إضاعة الوقت في قضايا أكبر منهم بكثير مثل سلاح الحزب. مع العلم أن الحزب والحركة والبطريركية المارونية وكتلة الاعتدال الوطني والنائب السابق وليد جنبلاط ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل يكررون الدعوة إلى الحوار مقابل رفض واضح من قبل القوات و«التغييريين»، والتباس موقف الكتائب وبعض المستقلين. إذ أن الحوار هو أمر عادي بالنسبة إلى كثيرين، لكنه يناقض مبرر وجود قوى أخرى مثل «القوات» التي لا تملك ما تقدّمه للرأي العام سوى التعبئة الحربية والتحريض.
وغالباً ما أضاف لودريان هنا أن «الفرنسيين لا يريدون الحلول محل اللبنانيين في تنظيم أو قيادة الحوار الذي يقع على عاتقهم، خصوصاً في ظل دعوة البطريركية المارونية للحوار«. وهو ما يدحض ما أشيع عن حوار لبنانيّ – لبنانيّ في باريس، ويعطي زخماً كبيراً لمسعى البطريركية الحواري، معيداً ضخ روح إيجابية في علاقة بكركي – الإليزيه. والواضح في هذا السياق أن باريس تتطلع إلى لعب بكركي دوراً محورياً في تخريج أي اتفاق لبناني – لبناني مقبل، وتأمين الغطاء المسيحي اللازم له، وهو ما يوافق عليه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي يمضي قدماً في توطيد التفاهم مع البطريركية المارونية، فيما يعارضه بشدة قائد القوات سمير جعجع، الذي يعاني عقدة نقص، كونه كان يعتقد بعد الانتخابات، أن ما حقّقه، يفرض على الغرب والسعودية التعامل معه كمرجعية مسيحية أولى، وليس مع بكركي. ومع التناغم بين بكركي وباسيل بفعل الأصدقاء المشتركين الكثر، ومنهم مطارنة أساسيون ورؤساء رهبانيات، بات جعجع يعتبر الحرص الفرنسي المستجد على دور بكركي، بضغط ومتابعة فاتيكانية، تحدياً مباشراً له.
– في ما يشبه التبرير المتواصل، أكّد لودريان في كل الاجتماعات أن «المبادرة الفرنسية كانت خياراً، اعتمدته باريس بعد ثمانية أشهر من الفراغ، لم يتخللها أي حوار جدي بين اللبنانيين». وهو اكتفى، في كل الاجتماعات، بهذه العبارة من دون أيّ إضافات: لم يتحدث عنها بصيغة الماضي، ولا بصيغة الحاضر أو المستقبل. برّر الموقف الفرنسي لكنه لم يبن عليه؛ لم يقل لأحد بأنّ الفرنسيين تخلّوا عن مبادرتهم كما لم يقل بأنهم يتمسكون بها.
لم يقل لودريان أبداً بأن جلسة 14 حزيران أنهت المبادرة الفرنسية أو عزّزت حظوظ مرشح على حساب آخر، لكنه قال إن الجلسة الأخيرة عقّدت الأمور و«صعّبت أكثر تسويق المبادرة في الداخل والخارج»، و«أعادت تكريس الانقسام اللبناني العَمودي الذي لا يتيح لفريق أن ينتصر على فريق». لكن مبدأ وصول رئيس للجمهورية مطمئن لفريق مقابل رئيس حكومة مطمئن لفريق آخر، هو طرح قائم، بمعزل عن رئيس مجلس النواب وشكل الحكومة.
وإذا كان لودريان واضحاً في إشارته في غالبية الاجتماعات، إلى التزام الفرنسيين وحرصهم على «العلاقة المميزة» مع الحزب، فإنه أشار خلال اجتماعه مع وفد الحزب إلى نقطتين أساسيتين:
– وجوب تفعيل الحزب قنوات إضافية لتعديل الموقف السعودي الذي لم يشهد التحول المنتظر لا بعد المصالحة الإيرانية – السعودية ولا بعد اجتماعات الرئيس الفرنسي الأخيرة مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، من دون أن يقطع الأمل أو ينعى المسعى الفرنسي المتواصل لإقناع السعوديين.
– وجوب تحقيق خرق مسيحي، إذ لا يمكن لأيّ تسوية رئاسية أن تبصر النور فعلاً دون شراكة مسيحية. وهو ما يؤكد أن الموقف المسيحي، معطوفاً على موقف بكركي، وقبله موقف الفاتيكان، كان له أثره على الموقف الفرنسي الذي عُدِّل ليوازن بين مراكمة الثقة مع الحزب من جهة واحترام مبدأ الشراكة من جهة أخرى.
يعود لودريان إلى بيروت منتصف الشهر المقبل ليحاول تقديم خريطة طريق جديدة، من دون أن يربط ذلك بحوار لبناني – لبناني أو فرنسي – إيراني أو سعودي – إيراني، ومن دون أن يربطه أيضاً بالتسوية الفرنسية الرئاسية السابقة أو بأيّ صيغة أخرى.
جولة لودريان كانت وفق المنظار السياسي حفلة علاقات عامة، تعيد باريس بموجبها التموضع سياسياً في لبنان، من دون أن تفرّط بعلاقتها مع حزب الله. وإذا كانت تراجعت خطوة إلى الخلف بعد الموقف المسيحي – السعودي – الفاتيكاني، فإن مقدار التراجع هو خطوة واحدة لا اثنتين أو أكثر. وإذا كان الحزب ما زال متمسكاً بترشيح سليمان فرنجية فإن الفرنسيين لا يرون أيّ إمكانية للحل من دون الحزب، ولا إمكانية بالتالي، لحل بالقفز فوق ترشيح فرنجية… وهذا ما يجعل الانتظار عنصراً يتحكّم بحركة الجميع، لمعرفة ما سيحمل معه في زيارته المقبلة. وعندها يمكن الحصول على جواب حول ما إذا كانت مبادرته تقول بالإبقاء على معادلة فرنجية – سلام مع الضمانات اللازمة للجميع تحت سقف الحوار، أو الانتقال إلى مقاربة أخرى. مع التأكيد على أن المقاربة الفرنسية للحل لا تشمل لبنان فقط، ولا ترى إمكانية للنجاح دون اتفاق خارجي – داخلي.