هنالك كثير من الأسباب التي تدفع في اتجاه حصول مواجهة بين تركيا وروسيا على الأراضي السورية. ذلك أنّ التدخّل العسكري الروسي أجهَض السعي التركي الدؤوب لإنشاء منطقة عازلة شمال سوريا تكون في الحقيقة منطقة نفوذ مباشرة للدولة التركية داخل الأراضي السورية وتَسمح لها لاحقاً بالنفاذ إلى التركيبة المستقبلية للحكم في سوريا، وبالتالي تدشين عصر تركي جديد في الشرق الأوسط.
أضِف إلى ذلك أنّ الدخول الروسي أعاد التوازن إلى المعادلة الميدانية ويساعد إيران في رسم خريطة جيو- سياسية جديدة في سوريا، كما أنّ العمليات الجوية الروسية تستهدف التنظيمات التي ترعاها تركيا إضافةً إلى قطر، والتي تطمح أنقرة لأن تكون ممثّلها داخل الائتلاف الحاكم في مرحلة ما بعد التسوية. ما يعني أنّ القضاء على هذه التنظيمات سيقضي على الفرصة التركية.
هذا عدا عن أنّ اقتراب موسكو إلى هذا الحدّ من الحدود التركية يُشكّل خطراً مباشراً على المصالح الحيوية لتركيا. وفيما كانت موسكو أسيرةَ مضيق البوسفور التركي كمنفَذ وحيد لها إلى المياه الدافئة، أصبحت تركيا محاصَرة من روسيا بعد التفاهم العميق بين موسكو وطهران اللتين دشّنتا خط التواصل بينهما عبر بحر قزوين مروراً بالأراضي الإيرانية وصولاً إلى الساحل السوري حيث القاعدة العسكرية الروسية. ومن هنا ربّما أهمّية رسالة إطلاق الصواريخ من بحر قزوين الذي سيشهد خصوصاً على التعاون في مجال تصدير الغاز.
كلّ ذلك صحيح ولكنّ الرسالة الأهمّ في إسقاط الطائرة الروسية تكمن في التوقيت الذي يأتي بعد زيارة الرئيس فلاديمير بوتين التاريخية لطهران. وعلى رغم أنّ الرئيس الروسي تمسّكَ خلال لقاءاته بأنّ العملية العسكرية الروسية محدودة زمنياً وهي لن تكون مفتوحة وبلا أفق.
إلّا أنّ الكلام الإيراني وعلى لسان مرشد الثورة السيّد علي خامينئي بدا رافضاً لأيّ تسوية سياسية مطروحة حالياً إلّا إذا كانت تُكرّس انتصاراً كاملاً، وربّما هذا الواقع أعطى الانطباع بأنّ واشنطن لم تكن بعيدة عن «الجرأة» التركية وعلى أساس أنّها رسالة تقول إنّه لا يجب الذهاب بعيداً وأنّ موافقة واشنطن على الدخول الروسي هو بهدف إمساك الأرض وأخذ إيران للتسوية لا التورّط معها في حرب طويلة.
وعلى رغم الكلام الذي وزّعته الديبلوماسية الاميركية عن توجيه لوم للحكومة التركية حول تصرّفها العسكري ودعوتها للتروي، إلّا أنّ مسارعة قيادة حلف «الناتو» للتواصل مع أنقرة فور إسقاط الطائرة الروسية عزّز الانطباع بأنّ واشنطن لم تكن بعيدة عمّا حصل، لا بل إنّها أعطت الضوء الأخضر لتوجّه رسالةً حازمة من خلال تركيا إلى كلّ من موسكو وطهران. ففي السابق وتحديداً حين جرى إسقاط طائرة تركية عام 2013 كانت ردّة فعل «الناتو» مختلفة، ومع خرقِ الطائرات الروسية لأجواء تركيا بقيَت قيادة «الناتو» باردة.
الواضح أنّ واشنطن تريد الدخول في ورشة سياسية في سوريا ولو على وقع استمرار دويّ المدافع، فهذا لا يتعارض مع ذاك.
في السعودية قريباً مؤتمر لأطياف المعارضة لتشكيل الفريق المفاوض. وفي العراق تقترب الساعة من طَرد «داعش» من الرمادي حيث ستتولّى القوات العراقية التي درّبتها واشنطن هذه المهمة إلى جانب القوات الأميركية.
في اليمن تتردّد معلومات عن لقاء سيُعقد الشهر المقبل بين السلطة اليمنية والحوثيين ليطلقَ مساراً تفاوضياً قد يطول بعض الشيء، وقد شاركت سَلطنة عمان في التمهيد له.
وفي لبنان يلوح مسار جديد في الأفق، وهو أدّى إلى لقاء باريس بين الرئيس سعد الحريري والنائب سليمان فرنجية، والغاية منه تبنّي ترشيح الأخير لرئاسة الجمهورية.
في الأسابيع الأخيرة ظهرت مبادرة سياسية للأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله تلتها مرونة «مستقبلية» واضحة، وهو ما يَعني أنّ «حزب الله» كان على اطّلاع بالمستجدّات في شأن فرنجية.
والأهمّ أنّ الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند كان قد حملَ مبادرةً لطرحها أمام الرئيس الإيراني حسن روحاني لدى زيارته باريس لكنّ الهجَمات التي حصلت ألغَت هذه الزيارة.
أوساط سياسية لبنانية سمعت من السفير الفرنسي ايمانويل بون، المعروف بقربه من هولاند، أنّ لبلاده مبادرةً ولكنّه أصرّ على إبقاء تفاصيلها طيّ الكتمان. لكنّ بون وخلال لقاءاته مع سياسيين لبنانيين زاد من أسئلته حول فرنجية وآرائه ومواقفه في هذا الشأن أو ذاك.
المسألة واضحة: باريس كانت في أجواء ما هو جاري التحضير له، على الأرجح من السعودية التي واكبَت مرحلتي ما قبل اجتماع باريس وما بعده.
في الحسابات الدولية أنّ إيران تتشدّد في بقاء الرئيس بشّار الأسد لأنّها تخشى على «حزب الله»، وبالتالي فإنّ وصول فرنجية إلى الرئاسة سيمنح طهران الضمان المطلوب، إضافةً إلى تليين موقف الرئيس السوري المعروف بصداقته المتينة مع فرنجية، لكن وعلى رغم جدّية هذا الطرح إلّا أنّ العوائق لا تزال أمامه كبيرة.
صحيح أنّ ردّة فعل «التيار الوطني الحر» عادت وبَردت بعض الشيء، لكنّ ذلك لا يعني أنّ تفاهماً قريباً قابلاً للحصول.
وفي المقلب الآخر وعلى رغم نجاح الحريري في احتواء ردود الفعل المعترضة داخل تيّاره، إلّا أنّ موقف «القوّات اللبنانية» لا يزال رافضاً، ما زاد من التوتّر في العلاقة مع تيار «المستقبل».
في السابق أرسَل رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع لفرنجية أنّه يسير به كمرشّح لرئاسة الجمهورية شرط إيلاء حقيبة وزارة الداخلية لـ«القوات» ووقوف فرنجية ضد وصول العميد شامل روكز إلى قيادة الجيش.
لكنّ اعتراضَ جعجع الحقيقي هو أبعد، ويصل إلى حدّ الخشية من نجاح فرنجية في حال وصوله من توسيع مروحة زعامته في الشمال، بعدما بدا مطمئناً إلى وضعه الشمالي ويسعى لتوسيع حضوره في جبل لبنان من خلال علاقته المستجدّة مع العماد ميشال عون.
لكنّ العائق الأهمّ هو ما أورده السيّد نصرالله في مبادرته وما يطالب به بقوّة الآن، والمقصود قانون جديد للانتخابات. في المقابل يتمسّك تيار «المستقبل» بالقانون الحالي لأنّ أيّ قانون آخر يغيّر وجه مجلس النواب وهو ما يسعى إليه بالضبط «حزب الله». وقيل إنّ الحريري ردّد أمام قريبين منه قائلاً: «ليس في وسعنا إعطاء الرئاسة وقانون الانتخابات معاً»، وهو أعطى فرنجية مهلة ثلاثة أسابيع لسماع الأجوبة.
في أيّ حال فإنّ أمام التسوية اللبنانية مهلة زمنية لا بأس بها قد تصل إلى شباط أو آذار المقبلين ربطاً بالمستجدات والمفاوضات التي ستحصل على الساحة السورية. وهي مدّة فاصلة طويلة قد تحمل المدّ كما الجزر.