نهاية أسبوع فرنسية قصيرة قضاها رئيس الحكومة سعد الحريري لالتقاط الانفاس، بعد محنة 14 يوماً سعودية، بدأت ترتسم فيها استراتيجية الخروج من الازمة المقبلة قبل ولوجها، بوعود أوروبية وفرنسية بالضغط على إيران، ووجهت بتصريحات إيرانية مبكرة باتهام فرنسا بالانحياز في المنطقة، لقطع الطريق على أي رهان من هذا النوع. هي رسالة واضحة إيرانية للفرنسيين بأنه لا ينبغي التعويل على أيّ ضغط إيراني على حزب الله.
ويراهن الرئيس العائد، كما تقول التسريبات في باريس، على إعادة تكوين المشهد السياسي بتقديم موعد الانتخابات النيابية، واستغلال موجة التعاطف مع «الرهينة»، والعودة بقوة التفويض الجديد لفرض تسوية سياسية داخلية بشروط مختلفة عن بيان حكومته الوزاري، وتعيد النأي بالنفس الى المقدمة، وتستجيب لبعض الشروط السعودية.
استراحة الحريري بعد غداء الإليزيه أول من أمس، والعناق الحار مع الرئيس ايمانويل ماكرون، لم تشهد مواقف حاسمة، باستثناء ما بات معروفاً منها كالاستقالة والعودة الى بيروت. وهكذا واظب الحريري في خلواته مع من التقاهم من قيادات المستقبل والمقرّبين منه في شقته الباريسية على التمسك بتقديم الاستقالة في بيروت. وحجز كرسياً لعودته الى جانب الرئيسين ميشال عون ونبيه بري على منصة الاحتفال بالاستقلال، بعد غد الاربعاء. لم ينف الحريري شيئاً، كما لم يؤكد شيئاً. وحدها الابتسامات أجابت عن تساؤلات الصحافيين في شقته عن أيامه السعودية رهينة، وظروف خطاب الاستقالة. تأجيل الإفصاح عنها الى بيروت قد يكون التزاماً بتعهدات فرنسية ــ سعودية، ريثما تطأ قدماه العاصمة اللبنانية، كما تقول مصادر دبلوماسية في باريس.
الرئيس الحريري ترك للفرنسيين مهمة تمهيد الطريق نحو وساطة مع إيران لتسهيل الخروج من أزمة سياسية، تبدأ مع خروجه من قصر بعبدا وإيداعه الرئيس عون رسالة الاستقالة، كما ترك لمقرّبين منه مهمة التنبّؤ بخريطة الطريق السياسية التي تتقاطع مع الجهود الدبلوماسية الاوروبية في المرحلة المقبلة، ولا سيما الفرنسية منها، نحو أوهام إقناع إيران بتحجيم دور حزب الله الاقليمي، استجابة لبعض المطالب السعودية، على ما يقوله مسؤول رفيع في تيار «المستقبل» موجود اليوم في باريس. وشرح المسؤول سيناريو الأيام اللبنانية المقبلة، بعد لقائه الرئيس الحريري، وقال إنه سيقدم استقالته لندخل بعدها في أزمة سياسية. واشترط المسؤول المستقبلي الخروج مما سمّاه «النفق الذي ينتظرنا بنجاح الضغوط الدولية في دفع الايرانيين نحو احتواء حزب الله وإعادته الى لبنان». كذلك قال إن الاستشارات التي تلي الاستقالة قد تعيّن رئيساً جديداً للحكومة، فيما يتفرغ الرئيس الحريري لإدارة معركة الانتخابات النيابية.
ويبدو أن تيار المستقبل، بعد انجلاء غبار معركة لبنان لاسترداد الحريري، يخطئ في قراءة التعاطف الشعبي الذي تجاوز قاعدته التقليدية الى إجماع لبناني، بسبب ما تعرض له زعيمه خلال محنته السعودية، كما تحدثت عنها وسائل الاعلام. ويبدو أن التيار يخوض معركة لتثمير نتائج محنة زعيمه انتخابياً، فيما لا يزال علناً ينفي حدوثها، كما يراهن خطأً على استثمار رصيد لا يملكه وحيداً، إذ يشاركه في ملكيته الرئيس ميشال عون، فضلاً عن السيد حسن نصرالله، وبشروط سياسية تفضي الى مواجهة جديدة، بدا المزاج الشعبي بعيداً عنها في ساعات المحنة الحريرية الاولى. ورأى المسؤول المستقبلي أن العلاقة بين الحريري والسعودية قد تعود الى سيرتها الاولى، «شريطة أن يحصل على شي ما من حزب الله، كما نأمل أن يتمكن الفرنسيون من إقناع الايرانيين بتليين مواقفهم، ومقايضتها باستمرار تمسّك فرنسا بالاتفاق النووي الإيراني».
الجهود الفرنسية لتمهيد الطريق أمام التسوية التي يسعى اليها الحريري بدأت قبل أسابيع في سياق التقارب الايراني الفرنسي، والاستدارة الدبلوماسية الفرنسية في الخليج نحو إيران، وتمسّك الرئيس ماكرون بالاتفاق النووي الايراني، في مواجهة الولايات المتحدة. وقالت مصادر فرنسية مطّلعة لـ«الأخبار» إن لقاءات أمنية فرنسية ــ إيرانية جرت في العاصمة الاسبانية مدريد قبل أسابيع، لتعميق التقارب المستجد حول الملف النووي، تمهيداً لتعميق اللقاءات الدبلوماسية والسياسية بين الطرفين. وهي لقاءات يتوقع أن تشمل ملفات كثيرة في المنطقة.
وقال مصدر فرنسي رفيع في الإليزيه إن فرنسا لا تزال تتمسك بالاتفاق، لأنه يضمن الامن العالمي، ولأن فرنسا لا تستطيع أن تتخلى عن تعهداتها في إطار اتفاق الستة مع إيران في الرابع عشر من تموز 2015. أما بيان البيت الابيض أمس عن تفاهم هاتفي بين الرئيسين دونالد ترامب وايمانويل ماكرون «لمواجهة أنشطة إيران وحزب الله في المنطقة»، فقد بدا بعيداً جداً عن المزاج الفرنسي المحايد نسبياً، وهجوماً دبلوماسياً لاحتواء ما تحاوله فرنسا من إعادة التموضع في المنطقة، إذ لم يأت بيان الإليزيه على ذكر أيّ تفاهم من هذا النوع، بل إنه لم يفرد رواية لمكالمة مع الرئيس ترامب وحده، وضمّه الى سلسلة مكالمات مع الرئيسين ميشال عون وعبد الفتاح السيسي، والامين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتييريش، لا تستهدف سوى العمل على التهدئة. وكان مصدر دبلوماسي فرنسي يقول إن الرئيس ماكرون سيزور إيران قبل نهاية العام الجاري، وهو قرار يستهدف حماية عملية التقارب مع إيران من التخريب الاميركي. وسارع الرئيس الفرنسي أمس الى توضيح توازن موقفه بين السعودية وإيران، فقال رداً على الاتهامات الايرانية لفرنسا بالانحياز «لقد أساءت إيران فهم موقفنا المتوازن، وان فرنسا لا تنوي اتخاذ جانب أحد في الصراع بين السنّة والشيعة».
وكان مسؤول رفيع في الإليزيه قد حاول التخفيف من صدى الاتهامات الايرانية لباريس بالانحياز، لحماية القنوات الأمنية والدبلوماسية المفتوحة، واعتماد لهجة إيجابية تمهّد لإنجاح زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان لطهران، والتي باتت ترتبط مباشرة بالملف اللبناني. وقال المسؤول الفرنسي إنه لا ينبغي الإفراط في أيّ تفسير سلبي للتصريحات الإيرانية الأخيرة، مضيفاً «ان القنوات لا تزال مفتوحة مع الإيرانيين، ونحن لا نريد أن ندخل في مشاحنات معهم».