IMLebanon

مستقبل فرنسا بعد تصدّر الجبهة الشعبية نتائج الانتخابات التشريعية

 

 

 

أدّت الانتخابات التشريعية الأخيرة في فرنسا إلى تغييرات كبيرة في المشهد السياسي، حيث تصدّرت الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية النتائج، مما سيفسح المجال لفترة من التوتر والتعايش السياسي المعقّد بين القِوَى المختلفة. وفي ظل هذه التغيّرات، يواجه الرئيس إيمانويل ماكرون تحدّيات كبيرة في قيادة البلاد؛ فوفقاً للنتائج المعلنة، حصلت الجبهة الشعبية الجديدة على 182 مقعداً، في حين جاء تحالف ماكرون «معاً من أجل الجمهورية» في المرتبة الثانية بـ168 مقعداً، وحصل حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف بقيادة جوردان بارديلا على 143 مقعداً. وبذلك، لم يتمكن أي تحالف من الحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان (289 مقعداً من أصل 577)، مما يعني أن فرنسا تواجه حقبة من عدم الاستقرار السياسي.

والجدير بالذكر أن الجبهة الشعبية الجديدة (NFP) المتصدرة نتائج الانتخابات، تتألف من الحزب الاشتراكي (PS)، والحزب الشيوعي الفرنسي (PCF)، وحزب فرنسا الأبيّة (LFI)، وحزب البيئة الأوروبية (Les Verts)، أما برنامَج الجبهة الشعبية الجديدة فيتمثل بالسعي إلى تنفيذ مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، من بينها: زيادة الحد الأدنى للأجور إلى 1600 يورو، ورفع تعويض البالغين المعاقين إلى مستوى الحد الأدنى للأجور، وإعادة قانون التقاعد إلى سن 60 بدلاً من 64، وجعل ضريبة الدخل أكثر تصاعدية، بحيث يدفع أصحاب الدخل المرتفع ضرائب أكثر. أما بالنسبة لقضايا الهجرة، فتعتزم الجبهة الشعبية تسهيل إجراءات الحصول على التأشيرات، وتنظيم هجرة العمال والطلاب، وضمان حقوق كاملة للأطفال المولودين في فرنسا. كما تخطط لإنشاء وكالة إنقاذ محلية للبحر والبر، تسعى لاحقاً لتكون على مستوى الاتحاد الأوروبي. كما تتبنّى الجبهة الشعبية مواقف قوية تجاه القضية الفلسطينية، من بينها: الاعتراف بدولة فلسطين، وفرض عقوبات على إسرائيل، لأنها لا تحترم القانون الدَّوْليّ. إلى جانب تعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل.

لذا قال زعيم حزب «فرنسا الأبيّة» اليساري جان لوك ميلانشون بعد إعلان فوز تحالفه إنّه «علينا الاعتراف بدولة فلسطين لأنه من بين الوسائل المتاحة لنا للضغط»، ولكنه للأسف تعرّض ويتعرض للكثير من الانتقادات بسبب موقفه من الحرب على غزة، حيث يلفق له بعض الصهاينة تهماً بـ«معاداة السامية»، لا سيما أن من أبرز مواقفه الشريفة قوله أن ما تقوم به «إسرائيل» في غزة «ليس دفاعاً مشروعاً عن النفس وإنما إبادة عرقية»، ودعوته المستمرة إلى وقف إطلاق النار في غزة، ومطالبته فرنسا بالعمل على ذلك بكل قوتها السياسية والدبلوماسية. علاوة على ذلك، تدعم الجبهة الشعبية سيادة أوكرانيا من خلال تسليم الأسلحة الضرورية وإلغاء ديونها الخارجية.

وقد أثار فوز الجبهة الشعبية الساحق سخط جوردان بارديلا، زعيم حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف، فأعرب عن إيمانه بأن تحالف الجبهة الشعبية الجديدة وتحالف ماكرون الوسطي، هما «حزب واحد» وبالنسبة إليه هذا «تحالف عار». كما أشار إلى أن الاتفاقات الانتخابية بين اليسار وماكرون هي التي أدّت إلى فوز الجبهة الشعبية الجديدة، مما يثير قلقه وقلق مختلف القِوَى اليمينية.

بالمقابل، طالب زعيم «فرنسا الأبيّة» ميلانشون، من الرئيس ماكرون الاعتراف بهزيمته في الانتخابات، ودعا رئيس الحكومة إلى الاستقالة، واعتبر أن الفرنسيين لن يقبلوا «أي خيانة لأصواتهم»، مضيفاً أن «الشعب قال لا لليمين المتطرف ونرفض سياسة ماكرون». كما استبعد ميلانشون، تشكيل ائتلاف واسع من الأحزاب ذات التوجهات المختلفة. وقال إن من واجب ماكرون أن يدعو التحالف اليساري إلى الحكم، أي من خلال اختيار وزير أول (رئيس وزراء) من صفوفه.

أما في معسكر الوَسَط، فقد قال رئيس حزب ماكرون، ستيفان سيجورن، أنه مستعد للعمل مع الأحزاب الرئيسية لكنه استبعد أي اتفاق مع حزب ميلانشون. كما استبعد رئيس الوزراء السابق إدوارد فيليب أي اتفاق مع الحزب المنتمي لأقصى اليسار؛ في حين دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى توخي الحذر في تحليل نتائج الانتخابات التشريعية لمعرفة من يمكن أن يتولى تشكيل حكومة، معتبراً أن « كتلة الوَسَط لا تزال حيّة جداً» بعد سنواته السبع في السلطة. وقد صدر عن قصر الإليزيه، بيان أشار إلى إن الرئيس الفرنسي ماكرون ينتظر تشكيلة الجمعية الوطنية الجديدة من أجل اتخاذ القرارات اللازمة، علماً أنه يتوجب على الرئيس ماكرون بحسب الدستور الفرنسي اختيار شخص يحوز رضى أغلبية الجمعية الوطنية المطلقة، كوزير أول، لأن الجمعية تملك حق سحب الثقة من أي حكومة لا تنال رضاها. ناهيك عن أن ماكرون لا يمكنه الدعوة مرة أخرى لإجراء انتخابات برلمانية جديدة قبل 12 شهراً منذ الآن.

وتأسيساً على ذلك، فإنّ التحديات السياسية الراهنة، تتمثل بعدم حصول أي تحالف حتى الآن على الأغلبية المطلقة، ما يعني أن ماكرون لا يمكنه قيادة البلاد إلا بالتعاون مع رئيس وزراء يساري يعارض معظم سياساته الداخلية. وإن حصل ذلك، فإن هذا التعايش السياسي المرتقب قد يحوِّل ماكرون إلى «بطة عرجاء»، ما يجعله غير قادر على تنفيذ أجندته السياسية كما يشاء، الأمر الذي يفتح الباب أمام فترة من الصراعات السياسية والاقتصادية.

ولكن من المرجح برأينا أن يسعى ماكرون لتقسيم التحالف اليساري بإخراج الاشتراكيين والخضر لتشكيل ائتلاف يسار الوَسَط مع كتلته، مما يترك حزبي فرنسا الأبيّة والشيوعي الفرنسي بمفردهما.

ومع ذلك، لا يوجد في الوقت الراهن أي مؤشر على أي تفكك وشيك للجبهة الشعبية الجديدة في هذه المرحلة، ما يطرح احتمالاً آخر أمام الرئيس ماكرون، هو تشكيل حكومة تكنوقراط تدير الشؤون اليومية ولكنها لا تشرف على التغييرات الهيكلية؛ ولكن لم يتبين حتى الآن إن كانت كتلة اليسار من الممكن أن تدعم هذا الخيار الذي سيظل يتطلب دعم البرلمان.

ختاماً، مع انعدام وجود أغلبية مطلقة في الجمعية العمومية، تواجه فرنسا كما سبق وذكرنا فترة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، مما يتطلب حلاً وسطاً بين الأطراف المختلفة. كما سيحدد بكافة الأحوال برنامَج عمل الجبهة الشعبية الجديدة وقدرتها على تنفيذ الإصلاحات التي تدعو لها؛ مستقبل فرنسا في المرحلة المقبلة. ولذلك، ستكون الأسابيع القادمة حاسمة في تحديد مسار السياسة الفرنسية، سواء داخلياً أو على الساحة الدولية.