Site icon IMLebanon

“نكسة” الفرنسيين: خسروا الموارنة وسقط رهانهم على الشيعة

 

يحمل أي رئيس فرنسي منذ انتخابه همّ إعادة بلاده إلى الخريطة السياسية العالمية، بعد التحوّلات التي شهدها العالم وتراجُع دور باريس وانتهاء «الحرب الباردة»، في حين يُشكّل لبنان الممرّ الطبيعي والإلزامي لفرنسا من أجل تسجيل حضور شرق أوسطي. عاشت العلاقات الفرنسية – المارونية عصرها الذهبي منذ أيام الملك لويس التاسع، وتطورت هذه العلاقة على مرّ العصور إلى حين ولادة لبنان الكبير بطلب ماروني وبرعاية فرنسية، لكنّ هذه العلاقات بدأت بالتراجع مع تراجُع دور باريس عالمياً وظهور قوى جديدة على الساحة الدولية وأهمها الولايات المتحدة الأميركية.

 

ولا تزال الثقافة الفرنسية والغربية مؤثّرة في القرى والبلدات والمجتمع الماروني، ما يُفسّر تمسّك المدارس الكاثوليكية بتدريس اللغة الفرنسية إلى جانب الإنكليزية، وهذا الأمر دفع باريس إلى التحرّك منذ صيف 2019 ووضع خطة طوارئ من أجل دعم المدارس الكاثوليكية التي تعتمد المنهج الفرنكوفوني.

 

ويكذب من يُنكر وجود أزمة بين الموارنة والفرنسيين، وهذه الأزمة انطلقت ثقافية الطابع مع إنشاء جامعة «سيدة اللويزة» وأكملت بمنحى سياسي. إذ كان الهدف من إنشاء تلك الجامعة أيام الحرب، تأمين الاكتفاء الذاتي التعليمي للمسيحيين خصوصاً لمن يرغب في تعلّم الإنكليزية، وقد اتخذ القرار مع الرئيس العام للرهبنة والبطريرك الحالي مار بشارة بطرس الراعي، ما تسَبّب بأزمة مع الفرنسيين، حين زار السفير الفرنسي آنذاك معترضاً على اعتماد المنهج الإنكليزي، علماً أنّ كل المدارس المارونية والجامعات تعتمد الفرنسية منهجاً، لكنّ جواب الرهبنة المريمية كان بـ»أننا لا ننفّذ مصالح فرنسا أو إنكلترا بل مصالح شعبنا الذي يسافر إلى أوستراليا وأميركا، ويجب أن يكتسب اللغة الإنكليزية، وبالتالي فإنّ جامعة اللويزة هي الجامعة المارونية الوحيدة في الشرق التي تعلّم الإنكليزية».

 

هذا بالنسبة إلى الشق الثقافي التعليمي، أما سياسياً، فالأزمة المارونية – الفرنسية إنطلقت بعد «إتفاق الطائف» وسيطرة دمشق على لبنان وتولّي الرئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة، فعمد الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك إلى كسر عُرف كان سائداً منذ عقود، وذلك تلبيةً لطلب الحريري والسوريين، فالعُرف ينصّ على ضرورة زيارة أي رئيس فرنسي يقصد لبنان بكركي ويلتقي البطريرك الماروني، لكن شيراك خلال إحدى زياراته لبنان كسر هذا العُرف ولم يلتقِ البطريرك الماروني آنذاك مار نصرالله بطرس صفير، ما تسبّب بغضب ماروني على الرئيس الفرنسي.

 

هذه التراكمات في العلاقة تُظهر أن فرنسا لم تعُد «الأم الحنون» للموارنة وللبنان، لكونها غلّبت مصالحها على مبادئها. فعندما كانت مصلحتها مع الحريري الأب رمت كل تاريخ علاقتها مع الموارنة في «سلّة النسيان». وتظهر جليّة محاولات باريس ضرب الدور المسيحي، فعلى سبيل المثال زار رئيس الحزب «التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط الإليزيه وبحث مع الفرنسيين أوضاع لبنان وهو يكرر زياراته، في حين لم تُسجّل أي زيارة بارزة لرئيس حزب مسيحي إلى الإليزيه بعد عودة العماد ميشال عون من المنفى وخروج الدكتور سمير جعجع من المعتقل، بينما كانت تحصل لقاءات رئيس «التيار الوطني الحرّ» النائب جبران باسيل مع مسؤولين فرنسيين رفيعي المستوى بصفته وزير خارجية لبنان آنذاك وليس كرئيس حزب أو تيار مسيحي، ويسجل هنا رفض جعجع طلب ماكرون تسمية السفير مصطفى أديب لرئاسة الحكومة بعد انفجار المرفأ.

 

راهناً، تكبر الهوة أكثر وأكثر بين باريس والموارنة، وما تبنّي الإدارة الفرنسية ترشيح رئيس تيار «المرده» سليمان فرنجية إلا دليل واضح على هذا التأزم، وتؤكد أوساط مسيحية أنّ ما تقوم به باريس حالياً بحق المسيحيين من محاولة لتسويق فرنجية لم يقم به الإحتلال السوري خلال فترة حكمه للبنان. ففرنسا، الدولة التي تدّعي أنها ديموقراطية، لم تحترم إرادة المسيحيين حيث ترفض الأغلبية الساحقة من النواب والأحزاب والتيارات المسيحية إنتخاب فرنجية، بينما تستمر باريس في محاولاتها كسر إرادة المسيحيين وتزكية انتخاب رئيس هو مرشح «الثنائي الشيعي» وترفضه البيئة المسيحية.

 

مثلما ساير شيراك رفيق الحريري والسوريين لفترة من الفترات وضرب علاقات باريس بالموارنة، ها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يكرّر الأمر نفسه، لكن هذه المرة يحاول إرضاء الشيعة. ويشدّد زوار باريس على سعي ماكرون لإتمام صفقة مع الإيرانيين تقضي بإعطائهم ما يريدون في لبنان من سلطة وحكم مقابل تأمين مصالح فرنسا في إيران ولبنان. اذ يسعى ماكرون إلى استقطاب الإيرانيين وشيعة لبنان إلى صفوفه، لكنّ الحقيقة ليست كما يتمنّاها بحسب تأكيدات دبلوماسية، إذ إن الإيرانيين يطمحون إلى القيام بمقايضة مع الأميركيين وليس مع الفرنسيين، وبالتالي كل سياسة ماكرون سبّبت له خسارة المكوّن الماروني والمسيحي ولم يكسب الشيعة.

 

وسيُسجّل ماكرون خسارة أخرى في لبنان مع رفض المملكة العربية السعودية إنتخاب فرنجية. من هنا، يتوجّب على ماكرون إعادة حساباته على الساحة اللبنانية، فهو منذ انفجار 4 آب يقود باريس من فشل إلى آخر، خصوصاً مع ارتفاع منسوب الحديث عن صفقات تجرى بين أعضاء المنظومة الفاسدة في لبنان ومسؤولين في الإليزيه.