في اليومين الأخيرين، فوجئ المراقبون بشراسة الحملة التي تشنّها بيئة «حزب الله» على الوساطة الفرنسية الرامية إلى إقناعه بإخلاء المنطقة الحدودية من مقاتليه. ففي المطلق، لم ينقطع خيط التواصل بين باريس و«الحزب» حول الكثير من مفاصل الحياة السياسية في لبنان. فما الذي دفع «الحزب» إلى شنّ هذه الحملة؟
تصرّ وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا على رفض أيّ ربط بين طرحها وخطة إسرائيل الرامية إلى خلق منطقة عازلة جنوب الليطاني، وتؤكد أنّ ما تسعى إليه باريس لا يتجاوز منطوق القرار 1701.
واقعياً، قد لا تكون هناك فوارق جوهرية بين الطرح الإسرائيلي للمنطقة العازلة حتى ما بعد خط الليطاني، ومنطوق القرار الدولي 1701. ففي الحالين، لا يكون هناك وجود مسلح لـ«حزب الله» في هذه المنطقة، وتتولى القوات الدولية بالتنسيق مع الجيش مسؤولية الأمن حصرياً هناك. ولكن، المشكلة ربما تكمن في توقيت الطرح. فالمسألة لا يمكن حلها فيما المعارك دائرة في غزة. كما تكمن في الثمن الذي يريده «الحزب» لقاء قبوله بـ«تضحية» بهذا الحجم.
المطّلعون على الجو الفرنسي في لبنان يسألون: على «حزب الله» أن يوضح هل ما تقوم به باريس حالياً يصبّ في مصلحة لبنان أم ضده؟ فماذا لو أوقفَ الفرنسيون وساطتهم وتركوا لبنان يتدبّر أمر الحدود ومخاطر انفجار الوضع بينه وبين إسرائيل، هل سيكون ذلك مناسباً للبنان؟
وينقل هؤلاء معلومات مفادها أنّ قوى لبنانية عديدة ناشَدت باريس أن تتدخّل منعاً لقيام إسرائيل بمغامرة مدمّرة في لبنان. وهذه القوى تخشى اليوم أن يقوم الفرنسيون بسحب يدهم من الوساطة الحالية، تجنّباً لسوء الفهم أو لتوتير العلاقة مع أي طرف داخلي، بحيث يصبح الانفجار في الجنوب مسألة واردة في أي لحظة.
فإذا توقفت الوساطات، ستكون الكلمة للمدافع وحدها في الجنوب، ومن دون ضوابط سياسية، وسينفتح الباب على المجهول. والطرف الوحيد الذي يمكن أن يتكفّل بوضع ضوابط لإسرائيل حينذاك هو واشنطن. وبالتأكيد هي سترفع سقف شروطها في وجه لبنان و«حزب الله» أكثر من فرنسا.
العارفون يقولون أيضاً: إذا سحب الفرنسيون أيديهم فهل يتحمّل الجميع مسؤولية انقطاع آخر خيط قبل حصول الكارثة؟ وعلى «حزب الله» أن يتخذ القرار الذي يريده، بالتزام القرار 1701 أو التنكر له، ولكن على الجميع أن يتحسّب للمواجهة المباشرة المحتملة مع إسرائيل، في ظل تهديدات متواصلة بتوجيه ضربات موجعة جداً ومدمرة. فهل يتحمل لبنان هذا الأمر؟
وبمعزل عن الحراك الذي تقوده فرنسا، هل حدّد لبنان كيف سيتصرف في مواجهة التحديات الخطرة التي تهدده جنوباً؟ وهل رسم الخطط لتجنّب أي مغامرة إسرائيلية مدمرة؟
في بعض الأوساط السياسية في لبنان، هناك من يعتقد بأن الانتقادات التي يوجهّها «الحزب» إلى فرنسا حالياً هي في العمق محاولة لرفع ثمن التسوية التي يمكن أن تُسفر عنها الوساطة الفرنسية، وهي تسوية حتمية في رأي هؤلاء، لأنّ الحرب العاصفة المندلعة اليوم في غزة لا يمكن أن تنتهي إلا بتسويات سياسية متعددة تَصِل مفاعيلها إلى لبنان أيضاً. والجميع يتحسّب لحجز المواقع والمكاسب في هذه التسويات.
وخلاصة ما يريده «حزب الله» في لبنان هي الحفاظ على موقعه المتميّز وتكريسه باعتراف القوى الإقليمية والدولية. ويعتبر «الحزب» أنه تعرّض في السنوات الأربع الأخيرة لمحاولات متكررة تَهدف إلى إضعافه. وقد بدأت بانتفاضة 17 تشرين الأول 2019، ثم في «النكسة» التي شهدها في الانتخابات النيابية قبل عام، ومحطات سياسية كثيرة. لكن ما حصل واقعياً هو أن «الحزب» تجاوز كل التحديات وهو اليوم في الموقع الأقوى على رأس سلطة القرار الفعلية.
فهو الذي فاوضَ وقرّر عملياً في ملف ترسيم الحدود البحرية، وهو اليوم صاحب القرار الأول في اختيار من يريد لرئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وسائر المؤسسات والأجهزة والمرافق الإدارية والأمنية والمالية والقضائية. ولا يمكن أن يقبل «الحزب» بأي طرح ما لم يعترف له بهذه الوضعية الممتازة.
وثمّة من يقول إنّ الدليل الأبرز على عدم رفض «الحزب» مبدأ التفاوض جنوباً هو أنه بَدا مستعداً للتجاوب مع الطرح الأميركي، عبر الوسيط عاموس هوكشتاين، قبل حرب غزة، الانطلاق بمفاوضات غير مباشرة حول الحدود البرية أيضاً. ففي هذه المفاوضات سيكون لـ«الحزب» دور أساسي، من خلف الستارة، على غرار ما جرى في الترسيم البحري. وما يحاول الفرنسيون تسويقه اليوم، هو تحديداً مشروع تفاوض جديد حول الحدود، بالتنسيق الكامل مع واشنطن.
في اعتقاد هؤلاء أنّ رسائل التصعيد الكلامي التي تطلقها البيئة القريبة من «حزب الله» لا تعني الاعتراض على تنفيذ القرار 1701. فالمنطقة الحدودية نَعمَت بوضع أمني مثالي على مدى 17 عاماً، ولم يعكّرها سوى انفجار الحرب في غزة. وكما تم الاتفاق على الترسيم بحراً، فإنّ الجميع موافق على الترسيم البري أيضاً.
ولكن، في المقابل، يريد «الحزب» مزيداً من الاعتراف بقوته ودوره. والأميركيون والفرنسيون هم رعاة الحلول في الداخل اللبناني، والفرصة متاحة أمامهم لإتمام هذه الصفقة، بمباركة دولية وعربية شاملة. وعلى الأرجح، اللعبة مكشوفة، والجميع يفهمون على الجميع.