من يَدّعون الحياد ويدعون إلى تحييد لبنان عن صراع المحاور، وتُستنفر مشاعرهم السيادية لدى أيّ تحرك لمحور الممانعة في لبنان، مهما كان صغيراً، لا يبدون أيّ انزعاج (إذا لم يكن العكس تماماً) مهما بلغ حجم تحرك المحور المضاد. مقابل محور الممانعة الذي يمتدّ من الضاحية الجنوبية إلى طهران، ثمة محور آخر يمتد من معراب والصيفي وبقايا خلايا التحريض السنّي – الشيعي إلى واشنطن. لكن التركيز، سياسياً وإعلامياً، يوحي دائماً بوجود محور واحد – لا محورين – شرّير هبط بالمظلات في هذا البلد. محور الممانعة، أو المحور الإيراني، الذي لا يقابله محور أميركي يريد إنهاء القضية الفلسطينية وتوطين اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين ومعاقبة كل من يرفض التطبيع بالحصار الاقتصادي والتخريب.يُستنفر هؤلاء حين تقترب طائرة ديبلوماسية إيرانية من المجال الجوي اللبناني، فيما لا يرون تهديداً للحياد والسيادة حين يلتقي ما بات يُعرف بـ«سفراء الخماسية»، مراراً وتكراراً، للبحث في القضايا اللبنانية الداخلية. من باريس والدوحة إلى منزل السفير السعودي وقصر الصنوبر، تتدخّل الدول الخمس في الشأن اللبناني بشكل طبيعيّ جداً لا يستفزّ أحداً، ويضعون «معايير» و«التزامات» وغيرها من عناوين يفترض أن يحددها الناخب اللبناني. رغم ذلك، تراجع زخم «الخماسية» من دون أي جهد يذكر من خصومها، لاكتفائها بترداد الشعارات نفسها وعدم امتلاكها خططاً لتحويلها إلى أفعال. ومع تكرار الاجتماعات المتباعدة والبيانات العامة، بات واضحاً أن الهدف من «الخماسية» هو التذكير بأن البلد لا يزال على «الرادار» الأميركي، لكن في حالة ضمور كاملة للأفكار والمشاريع والخطط: لم نتخلّ عن طموحاتنا فيه، لكن لم نعد نملك الأدوات والوسائل لتحقيقها.
ورغم إصرار «الخماسية» على صورتها الجامعة، بات واضحاً أن الأميركيين يعملون (كما في ترسيم الحدود البحرية) عبر خطّين متوازيَين: الخط الفرنسي والخط القطري. قبل بضعة أشهر، كان القطري هو المتشدّد الذي يتبنّى الترشيح الأميركي غير المعلن لقائد الجيش العماد جوزف عون، فيما الفرنسي ديبلوماسي ليّن يسعى إلى تدوير زوايا التسويات. اليوم، الأمور معكوسة تماماً. ويتزامن هذا التحول في التموضعات داخل الخماسية مع أربع إيجابيات بالنسبة إلى الدوحة:
أولاها، تخلّي فرنسا، بعد 7 أكتوبر، عن القليل الذي تبقّى من مصداقية سياستها الخارجية، حين ذهبت أبعد من الأميركيين في تبني السردية الإسرائيلية وكيل التهديدات، فيما تحاول قطر أن تقوم بدور الوسيط في الملعب الإقليميّ، وهو ما يعزز علاقاتها مع مجمل الأفرقاء.
ثانيتها، تعثّر المهمة الفرنسية التفاوضية منذ البداية، بسبب تركيزها على الثنائي الشيعي وتجاهل – ومعاداة – بقية الأفرقاء، بمن فيهم أصدقاؤها التاريخيون كبكركي والنائب السابق وليد جنبلاط. في المقابل، يحرص القطري على مراعاة غالبية المعنيين بالاستحقاق الرئاسي حتى الآن، ولا يشعر أيٌّ من هؤلاء بأن الحركة القطرية تستغيبه أو تمثل تهديداً أو استفزازاً له.
ثالثتها، ظهور الفرنسي بمظهر من لا يملك كلمة السر الأميركية ولا القدرة على إقناع السعودية، مثلاً، بالسير في ما يراه مناسباً.
رابعتها، تيقّن حزب الله بأن ما يريده الفرنسيّ ليس دوراً وظيفياً، كوسيط أو عرّاب تسويات أو حتى رأس حربة سياسية في مشروع كبير، وإنما إيجاد ديناميكية سياسية تسمح له بتأمين موطئ قدم له في المنطقة بعدما سبقه الروسي عبر سوريا والأميركي عبر إسرائيل، وهو ما يمكن تأمينه بمعزل عن التسوية الرئاسية بحد ذاتها.
وإذا كان ثمة قلق مبدئي لدى عدة أفرقاء من إهداء الديبلوماسية القطرية انتصاراً في لبنان في ظل العداء القطريّ للدولة السورية، فإن بعض الخطوات الإيجابية سُجّلت أخيراً على خط الدوحة – دمشق، مع تيقن الجميع من أن إهداء النصر الديبلوماسي لفرنسا لن يكون أفضل، في ظل عداء باريس المتواصل لدمشق والمعارك الروسية – الفرنسية.
بناءً على هذا كله، يتراجع الفرنسي ويتقدم القطري. كان الأخير يتّكل على «الخماسية» لعرقلة الاندفاعة الفرنسية، فصار الفرنسي يتّكل عليها لعرقلة الاندفاعة القطرية. وهو ما يجعل من «الخماسية» هذه صورة مصغّرة من مشهد 14 آذار العام: مصالح فردية تطغى على مصلحة الجماعة، خطوط اتصال مباشرة وغير مباشرة مع حزب الله، شعارات بلا خطط عملية أو واقعية. ليكون السؤال بالتالي عما تطرحه «الخماسية» فعلياً اليوم: الولايات المتحدة تتفرج، فرنسا المنكفئة خلف السعودية، ومصر تطرح قائد الجيش، فيما تخلّت قطر عنه لمصلحة اللواء الياس البيسري الذي تحوّل من «مرشح جبران باسيل» إلى المرشح القطريّ الأول اليوم. وما يسرّب من اللقاءات القطرية المتعددة يفيد بانطلاق القطريين من ثلاث ثوابت يردّدونها بأشكال مختلفة:
الأولى، لا حظّ للمرشح سليمان فرنجية، ولا إمكانية لأن يصبح لديه حظ مستقبلاً، ولا سيما بعد سحب الفرنسيين مبادرتهم وتأكيد حزب الله نفسه أنه لا يريد فرض رئيس. وبالموازاة، لا حظوظ للمرشح جوزف عون بحكم رفض الثنائي وباسيل لترشيحه وعدم وجود أي سيناريو منطقي يسمح بإضافة مطلب الحصول على رئيس للجمهورية إلى جانب كل الطلبات الأميركية من الحزب. إذ لا يمكن مطالبة الحزب بفك وحدة الساحات والانسحاب إلى شمالي الليطاني وعقد جلسة لانتخاب رئيس وتسهيل أو انتخاب عون.
الثانية، وجود أشخاص يمكن تأمين إجماع حولهم من الثنائي وجنبلاط وباسيل، ولا يشكل طرحهم انتصاراً لفريق أو هزيمة لآخر، ولا يستفزّ بقية الأفرقاء كالتغييريين والقوات والكتائب والكتل السنية المختلفة.
الثالثة، عدم ربط الملفات المتشعبة بعضها ببعض، وفي المقابل عدم التعامل مع الاستحقاق الرئاسي بوصفه جزيرة كما يصرّ كثيرون. إذ لا بدّ من أن يترافق مع بحث جديّ في ظروف العهد المقبل والحصار الاقتصادي وعدم وجود أسماء جدية مطمئنة للسعوديين وغيرهم على مستوى رئاسة الحكومة.
الدوحة وباريس تتبادلان المواقع والفيتو السعودي الذي عرقل الفرنسيين لا يزال قائماً
مع ذلك، لم يطوّر القطري بعد الفكرة أو القدرة على إقناع محاوريه – وفي مقدمهم حزب الله – بأن طرح البيسري ليس مجرد مناورة سيتصدى الأميركيّ لها فور سحب فرنجية ليعيد طرح عون. إذ لا ضمانة قطرية واضحة بالموافقة الأميركية على ما تطرحه الدوحة من أفكار، علماً أن الأميركي لم يحترم كلمته في ما يخص اتفاقية التنقيب التي وصفت بأنها اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، ولم يف بالتزاماته.
وهنا ثمة سؤال إضافي عن رأي الأميركيين الحقيقي بالبيسري: هل يتعاملون بجدية مع الطرح القطري أم بخبث لكسب الوقت لمصلحة جوزف عون؟ هذا ما يمثل عائقاً جدياً أمام المسعى القطري، إضافة إلى تأكيد الحزب الدائم (في كل الاجتماعات مع القطري) التزامه المبدئي والسياسي والأخلاقي بتبنّي ترشيح فرنجية ما دام أنه مرشح، وأنه لن يطلب منه الانسحاب بما يفرض على القطري أو غيره إقناع فرنجية نفسه بالانسحاب قبل إقناع الحزب بأيّ مرشح آخر. ويضاف إلى العوائق أمام المهمة القطرية، السؤال الدائم عما إذا كانت السعودية ترضى بأن تكون جزءاً من حلّ يصوغه القطريون؟ وإذا كانت مشكلة الفرنسيين أنهم سعوا لارضاء حزب الله في تجربتهم الأولى، فإن مشكلة القطريين، هنا، أنهم يظهرون بمظهر من يسعى لإرضاء حزب الله وباسيل وجنبلاط. بهذا المعنى، فإن الفيتو السعودي الذي عرقل الفرنسيين لا يزال قائماً، ويمضي القطريون مفترضين أن الرضى الأميركيّ يغنيهم عن السعوديّ، تماماً كما اعتقد الفرنسيون.
في النتيجة، لا يمكن القول إن ثمة طبخة قطرية على نار هادئة يمكن أن تفضي إلى خرق. لكن، في المقابل، لا يمكن القول أيضاً إن هذا كله «حكي فاضي». عملياً، ثمة حركة متواضعة في المياه الراكدة؛ شيء أفضل من اللاشيء المتواصل منذ شهور، لكن هذا «الشيء» لم ينضج بعد ليأخذ شكل مبادرة. يعمل القطريون على جبهتين أساسيتين هما: الثنائي من جهة، وجنبلاط وباسيل من جهة أخرى. لكن هناك جبهات أخرى إلزامية، أبرزها السعودية والولايات المتحدة. وقبل انتزاع ضمانات من هاتين الأخيرتين، يبقى المسعى القطريّ في خانة المناورة لا المبادرة.