باريس تقرأ في نيات «حزب الله».. و«الأعجوبة اللبنانية»!
تقرير البعثة الفرنسية: لبنان «على كفّ عفريت»
يخلص تقرير أعدّه خمسة نواب فرنسيين وعُرض أمام الجمعية العامة (البرلمان الفرنسي) إلى أن لبنان يعيش «على كفّ عفريت»، متأرجحاً بين الحفاظ على مناعةٍ مكتسبة نتيجة عوامل عدة، أبرزها الخشية من عودة كابوس الحرب الأهلية، وبين انهيار وانفجار قد تثيره أي صدمةٍ أو خضةٍ، متوقعة كانت أم غير متوقعة، جراء تداعيات الحروب الدائرة في الإقليم والشلل على مستوى المؤسسات الدستورية والشغور الرئاسي، فضلاً عن وجود مليون ونصف لاجئ سوري على الأراضي اللبنانية، وخطر حرب إسرائيلية جديدة.
النواب الفرنسيون الخمسة شكلوا بعثة لتقصي الحقائق عن الوضع اللبناني عملت بموجب قرار صدر عن الجمعية العامة الفرنسية بتشكيلها في آذار 2015، وهم أكسيل بونياتوفسكي (رئيس البعثة)، وبنوا هامون (المقرر) وجان جاك غييه وجان رينيه مرساك وكريستيان باتاي وجان بول باكيه.
في تقريرهم الذي يقع في 153 صفحة، لم يُخف هؤلاء قلقهم على لبنان «على الجبهات كافة»، بعدما عقدوا عشرات الاجتماعات في باريس وبيروت مع عدد كبير من المسؤولين اللبنانيين والفرنسيين، من سياسيين وعسكريين واقتصاديين وغيرهم، وخرجوا بجملة توصيات لمنع التدهور.
تطرّق الفصل الأول من التقرير للوضع في لبنان الذي وصفه بـ «المقلق على جميع الجبهات»، واعتبر التقرير أن الحرب السورية لا تشرح وحدها أسباب الأزمة في لبنان، برغم وقوفها وراء التهديدات الأكثر إلحاحاً على أمنه، «فالانقسام السياسي اللبناني بين موالين لدمشق ومعارضين لها يسبق الأزمة في سوريا التي اندلعت في العام 2011، ولكنه تفاقم منذ ذلك الوقت. أما على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، فإن لبنان يدفع منذ زمن طويل ثمن تراجع بنيته التحتية وخدماته العامة الأساسية، علماً أن تدفق اللاجئين السوريين أثقل كاهله. وأخيراً، فإن حدّة التهديد الأمني ناتجٌ أيضاً عن ضعف الجيش والقوى الأمنية، بعد 15 سنة من الحرب الأهلية و15 سنة أخرى في ظل الوصاية السورية».
يُفنّد التقرير أسباب القلق الفرنسي على لبنان، خصوصاً لجهة الشلل الذي أصاب المؤسسات والشغور في موقع رئاسة الجمهورية منذ أيار 2014 وعدم التئام مجلس الوزراء بشكل منتظم وصعوبة تبنّيه للقرارات، فيما لم يعُد مجلس النواب يشرّع القوانين إلا استثنائياً. وحذر من ان هذا الشلل هو الأطول الذي أصاب لبنان، وهو يشكل خطراً على استقراره، بعدما بات هذا البلد بنظر الكثيرين بحكم «المُعّلق»، بدلاً من أن يستنهض قواه كافة معتمداً عليها لتخطي أزمته.
عقدة عون
ويعتبر التقرير أن الاستحقاق الرئاسي يبقى معطلاً بالرغم من أن المرشحَيْن الرئيسيين، سليمان فرنجية وميشال عون، ينتميان إلى فريق «8 آذار»، ويضيف التقرير: «بالنسبة لبعض مَن حاورتهم البعثة الفرنسية، فإن استمرار ترشّح عون، ولو بصفة غير رسمية، يشكل العقدة الأساسية أمام الانفراج الرئاسي بسبب «الفيتو» السعودي عليه، ما يمدّد التعطيل الانتخابي ويعرقل إمكانية بروز مرشحين آخرين قد يملكون حظوظاً للنجاح.
ويعتبر التقرير أن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، وبعد فترة صمت طويلة حول ورقة («كرت») الحريري ـ فرنجية، أعلن أن الأخير هو مرشح يستطيع الحزب دعمه تماماً، ولكنه سيستمرّ في دعم عون من باب الوفاء، ما يعني، بحسب مُعدّي التقرير، أن «حزب الله» حاول إيصال رسالةٍ مفادها أنه سيقف إلى جانب ترشيح زعيم تيار «المردة» إذا انسحب عون الذي يُصرّ له على أنه المرشح الأحق، مستنداً إلى شعبيته لدى المسيحيين وحجم تمثيل «التيار الوطني الحر» في البرلمان، ما يوصل إلى تحليل آخر بأن وحده «المرشح التوافقي» بإمكانه أن يصل إلى سدة الحكم. ولكن بعض من التقتهم البعثة الفرنسية اعتبروا أن عون، الذي تخطى الـ80 عاماً، لن يتنازل على الترشح، بعدما استبعد عن الرئاسة اللبنانية مرتين، الأولى في نهاية الحرب الأهلية، والثانية بعد عودته من فرنسا.
ونقل التقرير عن السفير الفرنسي السابق في لبنان باتريس باولي قوله لبعثة التقصي إنه يكفي أن يتفق الأطراف المسيحيون على اسم مرشح رئاسي لتصل عملية الانتخاب إلى خواتيمها السعيدة، وإن هؤلاء يملكون هامشاً حقيقياً للتحرك إذا تمكنوا من تخطي خلافاتهم، لأنه سيصعب كثيراً على الأطراف الأخرى معارضة اسم يتفقون عليه. واعتبرت البعثة الفرنسية أن تقارب الرابية ـ معراب ودعم زعيم حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع لترشح عون، رسم بداية مصالحة مسيحية، ولكنها تبقى غير كاملة.
مراجعة الطائف
وتحت عنوان «علامات استفهام حول النيات الحقيقية» لـ «حزب الله»، تساءل التقرير حول السبب الذي يمنع الحزب من تبديل رأيه لمصلحة فرنجية، مستنداً إلى أجوبة عدة وصلته في هذا الصدد: الأول هو أن «حزب الله» لا يسمح لنفسه بخسارة تأييد عون، إذ بفضله استطاع تشكيل تحالف «8 آذار» والبقاء في الحكومة (تيار فرنجية لا يمتلك الثقل السياسي ذاته الذي يمتلكه عون في الساحة المسيحية)، والثاني هو أن الحزب قد يكون يفضل فرنجية نظراً لشخصية عون ومساره السياسي، ولكنه لا يرغب بوصول سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة، ولذلك فهو ينتظر سقوط هذا الشرط. أما التفسير الأخير، فهو أن «حزب الله» ينظم تعطيلاً عميقاً ومتيناً للمؤسسات اللبنانية بهدف فرض مراجعة لتوازنات اتفاق الطائف بما يؤمن مصلحة أكبر للطائفة الشيعية. ويقول التقرير إن هذا المشروع الذي ينسب للحزب (تمّ نفيه رسمياً) يقضي بإعادة توزيع المقاعد البرلمانية مثالثةً بين المسيحيين والشيعة والسنة!
وفي الشق الإقليمي، يعتبر التقرير الفرنسي ان تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوضع في المنطقة: استمرار الأزمة في سوريا وتصاعد التوترات بين السعودية وإيران لا يساعدان الأقطاب اللبنانيين على إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم.
وبحسب التقرير، فإن الأزمة السورية يبدو أنها تغذي نوعاً من «الانتظار» في لبنان. فالانتصار المحتمل لأي طرف في هذه الأزمة قد يجد له ترجمة على صعيد التوازنات السياسية اللبنانية، عبر تقوية أحد الفريقين الرئيسيين: «8» أو «14 آذار». وتقتضي العقلانية أن يتوصل هؤلاء إلى حل وسط لإدارة مصالحهما بغض النظر عما ستسفر عنه نهاية الحرب في سوريا، ولكن السائد هو الجمود بانتظار إعادة توزيعٍ للأوراق. أما العرّابان السعودي والإيراني (للشيعة والسنة في لبنان) فلا يبدو أنهما جاهزان اليوم للتفاهم حول مخرج للأزمة. وبحسب مسؤولين فرنسيين التقتهم بعثة التقصّي، فإن الملفين اللبناني والسوري مرتبطان بالنسبة لكل من طهران والرياض.
الضرر على المسيحيين سيكبُر
ويتحدّث التقرير عن أهمية وجود رئيس للجمهورية، برغم أن هذا الموقع أضعف بعد اتفاق الطائف، معتبراً أنه كلما طال أمد الشغور الرئاسي، فإن الضرر سيكون أكبر على المسيحيين خصوصاً، إذ قد يعتاد اللبنانيون على قواعد جديدة للعبة تطبّق فعلياً، أي على فكرة أن البلد بإمكانه أن يعمل من دون دورٍ للموارنة.
ووصف التقرير الحكومة بالمشلولة، بسبب غياب التوافق الوطني الذي أصبح «من الماضي» (يذكر الخلاف قبل سنة حول تعيين شامل روكز قائداً للجيش)، واشتراط «حزب الله» وعون حصول أي قرار على الإجماع داخل مجلس الوزراء مهدّدين بمقاطعة جلساته.
أما البرلمان، فيدخل في «سبات عميق»: تجميد شبه تام للنشاط التشريعي، وعدم احترام الروزنامة الانتخابية منذ العام 2013، وعدم التوصل لقانون انتخابي توافقي. كما يشير إلى أزمة النفايات مثلاً التي توضح حجم المشكلات التي تواجه لبنان لجهة صعوبة اتخاذ القرارات المصيرية، وتعطل مشاريع حيوية كمشاريع استخراج الغاز من البحر.
الخطر الجهادي
أمنياً، أشار التقرير إلى أنه بالرغم من الهدوء الهش، فإن مخاطر أمنية مرتفعة لا تزال قائمة، خصوصاً بسبب تداعيات الأزمة السورية، متحدثاً عن مجموعات «جهادية» موجودة في لبنان، ووضع قابل للانفجار داخل المخيمات الفلسطينية، والجنوب اللبناني الذي يشكل مصدراً آخر للقلق.
ويُعرب التقرير عن خشيته من تمدّد «جهادي» باتجاه لبنان من الأراضي السورية (لم يترجم إلى الآن أي احتمال للانصهار بين جهاديي عرسال والشمال اللبناني، ولكن بحسب ما وصل للبعثة، فإن السلطات اللبنانية تخشى أن يقوم هؤلاء بفتح ممر عبر عكار بين وادي خالد والبحر المتوسط، كما أن بإمكانهم تنفيذ هجمات إرهابية ضخمة على الأراضي اللبنانية). وبرغم أن لبنان ليس جزءاً من الأهداف الآنية لـ «داعش»، إلا أن هذا التنظيم يريد الرد على تدخّل «حزب الله» في سوريا وخلق توترات طائفية تعمّق الانقسام اللبناني وتهدّد استقرار البلد. كما يتحدّث عن «نزعة جهادية قوية داخل المخيمات الفلسطينية، وخصوصاً في عين الحلوة، الذي جعلت الأزمة السورية منه أرضاً خصبة للتيارات «الجهادية» السلفية. وبخلاف ساحات أخرى، فإن مخاطر العبث بالأمن من قبل المجموعات «الجهادية» في جنوب لبنان تبدو محدودة بسبب سيطرة «حزب الله». ولكن «داعش» قد يسعى إلى ضرب الحزب في معقله الجنوبي، وقد نقلت إلاللجنة الفرنسية خشيةُ الحزب والجيش من تسلل للتنظيم المتطرف عبر الجولان.
السيناريوهات المحتملة
ويذكر التقرير أن لبنان استقبل اللاجئين السوريين بـ «سخاء» لافت للانتباه، برغم أنه ليس مجبراً على تطبيق اتفاقية جنيف الخاصة باللاجئين، ما أدّى إلى تفاقم العبء الملقى عليه، خصوصاً إذا ما أخذ في الاعتبار أن المساعدة الدولية تبقى غير كافية أمام ضخامة الاحتياجات، مضافاً إليها القلق الذي يحمل طابعاً أمنياً، والخشية من تداعيات اللجوء على التوازنات الطائفية، وهو ما عبّر عنه مسؤولون لبنانيون من خلال رفضهم أي محاولة طرح – ولو نظرية – لمسألة تجنيس اللاجئين (تذكير بتصريحات مستمرة لوزير الخارجية جبران باسيل بضرورة عودة اللاجئين السوريين، وتحذيره من مخاطر التوطين). وتقول البعثة أنها لمست من بيروت في أيلول 2015 أن هذا البلد لم يعُد بإمكانه استقبال المزيد منهم، منبّهة كذلك إلى ضرورة عدم إغفال الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة التي أصابت اللاجئين الفلسطينيين، والتي زادت حدتها الأزمة المالية لـ «الأونروا».
وتحت عنوان «السيناريوهات المحتملة لتطور الأحداث في لبنان»، لفتت البعثة النيابية الفرنسية في الفصل الثاني من تقريرها إلى «الأعجوبة اللبنانية» مقارنة بما يحصُل في الإقليم، محذرة في الوقت ذاته من أن «جميع عناصر الدخول في أزمة مفتوحة تبدو مجتمعة»، ومتسائلة عن مدى قدرة «المناعة» اللبنانية على الصمود إذا ما طال أمد الحرب السورية أكثر. وبشكل أوسع، فتحت اللجنة نافذة حول إمكانية تخلي هذا البلد عن النظام الطائفي الذي يبدو خياراً ضعيف الاحتمال، إن لم يكن خطيراً في الظروف الحالية.
إشادة ضمنية بـ«حزب الله»
ويعتبر التقرير أن «عوامل عدة بإمكانها الاستمرار في الدفع باتجاه تفادي الانهيار اللبناني إذا لم تحدث أي صدمة إضافية»، ومنها الخوف من شبح عودة الحرب الأهلية والخلل الواضح في موازين القوة العسكرية لمصلحة «حزب الله»، برغم ما نقل إلى اللجنة من ميلٍ في لبنان لإعادة تشكيل الميليشيات. أما الجيش اللبناني، فليس بوارد أي مواجهة محتملة مع «حزب الله» نظراً لتشكيلته المتعدّدة الطوائف ورفضه للانزلاق في صراع طائفي، بل إنه – وهذا ما يوحي به الأمر – يرفض التدخل سوى لخدمة أهداف تحظى بالإجماع الوطني. ومن أسباب المناعة كذلك، الخوف من الخطر «الجهادي» الذي يوحّد اللبنانيين: المسيحيون يخشون مصيراً مشابهاً لمآل إليه مصير أبناء طائفتهم في العراق وسوريا (استشهد التقرير بقول البطريرك بشارة الراعي نقلاً عن الصحافة اللبنانية في خريف 2014 بأن المسيحيين يعلمون أنه لولا حزب الله لوصل «داعش» إلى جونيه)، «حزب الله» لم يحظَ في البداية بالدعم الكامل من الطائفة الشيعية بالنسبة لتدخله في سوريا لكن الوضع تبدّل (تذكير باستطلاع رأي في صيف 2015 يظهر أن 78 في المئة من أبناء الطائفة الشيعية الذين شملهم يدعمون هذا التدخل و79 في المئة يعتقدون أن هذا يسمح لهم بالشعور أكثر بالأمان).
أما لجهة الطائفة السنية، فالرؤى تبدو متناقضة إذ يعتقد بعضهم أن تدخّل «حزب الله» ساهم في ازدياد الخطر «الجهادي» في لبنان، فيما يعتقد البعض الآخر العكس. لكن التقرير اشار إلى أن حتى المعادين للحزب الأكثر شراسةً ممن قابلتهم اللجنة يقبلون بالنظرية التي تضعه في خانة «المتراس الأول ضد التكفيريين»، ولو أنهم لا يعترفون بذلك علناً. في الواقع، حتى صمود الجيش، فبفعل منطقة الحماية التي شكلها «حزب الله».