Site icon IMLebanon

لودريان يقاتِل «شيطان التفاصيل»

 

 

في المبدأ، لم يُغيّر الفرنسيون في جوهر مبادرتهم السياسية المعروفة. لكنهم، بعد جلسة 14 حزيران فتحوا باب الاستماع إلى كل الطروحات. ويقول عارفون إن باريس تبلّغت إشارات ورسائل خارجية توحي بضرورة توسيع هوامش التسوية التي تسعى إلى تحقيقها. وعلى هذا الأساس، أطلقت ما يمكن تسميته النسخة الثانية من المبادرة، أو «نيو مبادرة» سياسية.

ينتظر الجميع ما سيكشفه الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان في زيارته الوشيكة للبنان، باعتبارها السبيل الوحيد المفتوح حالياً لإحداث ثغرة في الجدار المسدود. فالرجل سيكشف للسياسيين اللبنانيين طبيعة الهامش الذي تم إعطاؤه لمبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون الرئاسية.

 

العنوان الأساسي الذي سيحمله لودريان، وفق ما يقول نائب مطّلع على الحراك الجاري بين باريس وبيروت، هو دعوة القادة اللبنانيين إلى «جلسات استماع» في قصر الصنوبر، ما داموا قد فشلوا في إطلاق جلسات الحوار داخلياً، ومن دون تدخل خارجي. وقد سبق للرئيس ماكرون أن جرّب هذا النوع من الحوار «بالواسطة» بين القوى اللبنانية، في زيارتيه لبيروت بعد انفجار المرفأ في آب 2020.

 

اليوم، يمارس الفرنسيون ضغطا استثنائيا لإنتاج تسوية في لبنان، ويعتبرون أنهم في سباق مع الوقت لتحقيق هذه الغاية. ومن الضروري استثمار مناخات التهدئة الإقليمية التي تحققت بعد التوافق السعودي – الإيراني.

 

في هذه المناخات، يعتقد الفرنسيون أن فرصتهم مواتية لعقد الصفقات مع القوى النافذة في الشرق الأوسط عموما، ولرعاية تسوية سياسية في لبنان بالحد الأدنى من الاعتراضات الداخلية. وتعمل باريس لتجنب إهدار الفرصة، ما دامت اليوم الطرف الدولي الوحيد الذي يقيم علاقات متوازنة بين قوى النفوذ الإقليمي: المملكة العربية السعودية وإيران وإسرائيل. وبناء على ذلك، في إمكانها تحقيق المكاسب، فيما الأميركيون منشغلون بحربهم في أوكرانيا وحربهم الباردة مع الصين.

 

لا تريد فرنسا أن تغامر بأي حراك يستفزّ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. بل على العكس، هي تريد تطمين الأميركيين إلى أنها قادرة على الاضطلاع بدور الوسيط أو «المتعهد» الذي يمكنه أن يؤمن لهم مصالحهم الإقليمية، وأنه من الأفضل للولايات المتحدة أن تقوم هي بملء الفراغ الإقليمي وتقطع الطريق على موسكو وبكين في العديد من المواقع.

 

وفي الموازاة، تعتقد باريس أنها تحظى أيضا بثقة الإسرائيليين. فقد كان دورها فاعلاً في إبرام الاتفاق بين لبنان وإسرائيل على ترسيم الحدود البحرية وتَقاسم موارد الغاز، برعاية أميركية. ومن خلال هذا الدور، يشكل الفرنسيون جزءا من منظومة الشراكة في مجال الطاقة بين الشرق الأوسط وأوروبا.

 

لذلك، تحاول فرنسا اليوم أن تستفيد من الوقت الإقليمي والدولي الضائع لتحقيق أكبر قدر من المكاسب. وفي اعتقاد المسؤولين في إدارة ماكرون أن الظرف الإقليمي السانِح لباريس قد لا يستمر طويلا، إذا طرأت معطيات جديدة أعادت خلط الأوراق، ومنها مثلاً: احتمال تعويم المفاوضات الأميركية – الإيرانية حول الملف النووي، أو حدوث تطور غير محسوب بين إسرائيل وإيران، أو حصول تحولات في مسار الحرب الأوكرانية. وهذا ما يدفع الفرنسيين إلى استعجال عقد الاتفاقات مع القوى الإقليمية، ورعاية ما أمكن من التسويات، ومنها التسوية في لبنان.

 

لكن هذا الحراك الفرنسي ينظر إليه الأميركيون بإرباك أو بازدواجية. فمن جهة هم يعترفون بأن تحسين موقع فرنسا في الشرق الأوسط من شأنه أن يُبعد موسكو وبكين عن المسرح في حدود معينة. لكنهم من جهة أخرى يخشون أن يتمادى الفرنسيون في عقد الصفقات مع العرب وإيران، فيكون نجاحهم في النهاية على حساب النفوذ الأميركي أيضا.

 

وضمن هذه الرؤية، يتحرك الفرنسيون مجددا في لبنان، وهم إذ ينطلقون من مبادرتهم القائمة على نوع من المقايضة أو توازن القوى بين موقعي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، فإنهم باتوا أكثر انفتاحا للنقاش في احتمالات تطويرها، إذا وجدوا توافقا بين القوى اللبنانية على ذلك.

 

ويعتبر الفرنسيون أن الصيغة التي طرحوها في السابق تبقى ممكنة التحقيق في ظل التوازنات القائمة حالياً في لبنان والمنطقة. لكن ارتفاع مستوى الاعتراضات الداخلية عليها أوحى بأن هناك «كلمة سر» خارجية هدفها إعادة خلط الأوراق. وليس لدى باريس مانع في اعتماد أي صيغة أخرى، إذا حظيت باتفاق القوى اللبنانية. وهذا تحديدا ما سيعمل عليه لودريان خلال زيارته الحالية: نحن سنضغط على اللبنانيين لكي يتفقوا، وليس شأن فرنسا أن تقرر ما الذي سيتفقون عليه.

 

بعض المطلعين يعتقدون أن لودريان سيحاول «أسر» القادة السياسيين في قصر الصنوبر، حتى يتوافقوا. بالمعنى المجازي طبعاً. فهل سينجح؟

 

إذا كانت «كلمة السر» الإقليمية – الدولية قد نضجت، خصوصا بعد زيارة ولي عهد المملكة العربية السعودية محمد بن سلمان لباريس، فمن الممكن أن يشعر لودريان ببعض الليونة في مواقف القوى اللبنانية. أما إذا كانت القوى المعنية ستواصل توجيه الرسائل السياسية المستترة، فالوسيط الفرنسي قد يصطدم بنتائج التجربة التي خاض فيها ماكرون سابقا.

 

في هذه الحال، سيقول الجميع إنهم «متفقون على أن يتفقوا»، وكفى. ولكن، في الواقع، سيجد لودريان نفسه في قتال شرس مع شبح لا يراه، هو «شيطان التفاصيل». وفي العادة، هذا الشيطان يجيد التحرك في المناخات اللبنانية.