يمرّ لبنان حالياً بمعضلة يعتبرها بعض الدّارسين من أهم وأخطر ما تعرض له وطن الأرز في تاريخه. فهي من العمق والشمولية بحيث تطال مختلف جوانب الحياة الوطنية في أبعادها السياسية والاقتصادية وصولاً في بعض الأحيان إلى ملامسة قضاياها الوجودية كدولة سيّدة حرّة مستقلّة. ومع كثير من المعنيين بمقاربة هذه المعضلة سواء في الداخل أم من الخارج، تبقى الأنظار شاخصة إلى دور فرنسا الخاص والمميّز في مقاربة القضية اللبنانية لأسباب تاريخيّة وجغرافيّة وانسانيّة ودينيّة وجيو- سياسيّة. ففرنسا كانت في أساس قيام الجمهورية اللبنانية وفي مرافقة مسارها خلال الأعوام المئة المنصرمة. وها هي الآن تحاول أن تقوم بدور لايجاد حلّ للمعضلة اللبنانية في زمن حكم الرئيس ايمانويل ماكرون. لكن عقبات وصعوبات تقف حائلاً دون تمكّن فرنسا – ماكرون من تحقيق اختراق ايجابي في القضية اللبنانية بحيث راحت تعمل لبغداد ولمصير العراق بديل أن تعمل لبيروت ومصير لبنان؟
هذا التساؤل يطرح في الحقيقة احتمالين: إمّا أن تكون الوضعية اللبنانية بتعقيداتها سبباً لتأجيل مقاربتها! وإمّا أن تكون السياسة الفرنسية المعتمدة تجاه لبنان تقوم على اعتبارات سياسية عارضة وليس على أسس واعتبارات استراتيجية مبنية على ما يقدم الفكر العلمي الاستراتيجي حول مصير الدول الحاجزة ( État- Tampon) وهو ما كانت تسعى إليه فرنسا زمن شيراك وشيسون!
فرنسا… ولبنان
1 – يقول الرئيس الفرنسي الديغولي جاك شيراك (1988) «إنني متعلّق بلبنان تعلقاً عميقاً مثل الشعب الفرنسي. هذا البلد الصديق الذي يربطنا به التاريخ ومشاعر القلب». التاريخ والقلب، العلم والعاطفة جمعت بين لبنان وفرنسا. لا يقوم احدهما مقام الآخر. فالعلاقات الفرنسية – اللبنانية تقوم على أسس موضوعيّة وذاتيّة عميقة وثابتة وراسخة في التاريخ والجغرافيا والانسان المتوسطي. من حدود فرنسا إلى حدود شرقي المتوسط.
2 – لقد وعت أوروبا وفرنسا بشكل خاص، أهميّة لبنان، ليس فقط كبلد نموذجي للتفاعل الفكري والصراع الايديولوجي، والتنوّع الثقافي والتحكّم بعقدة المواصلات، ووجود أقليات مسيحية فيه، بل قبلها جميعاً بسبب موقعه الجغرافي، ففي التاريخ كل شيء يتغيّر: الناس والأفكار والمجتمعات والنظم والثقافات. ولكن الشيء الأكثر ثباتاً هو الجغرافيا. فالموقع الجغرافي مهمّ جداً في تحديد الأهميّة الاستراتيجيّة لبلد ما. وهذه الأهميّة تعود إلى الاشراف على البحار ونوعية المناخ ومربض الصواريخ والاشراف على المناطق المجاورة وحصانة الجبال التي يمكن الدفاع عنها.
3 – هذه المحفّزات، جعلت فرنسا تولي اهتماماً خاصاً للبنان ككيان سياسي إلى حدّ القول إنّ مشروع الدولة اللبنانية هو مشروع فرنسي بامتياز. وبالتالي فإن فرنسا ومعها أوروبا ستظلان أكثر من سواهما معنيّتين بشكل مباشر بمصير لبنان واللبنانيين. وتأكيداً لهذا الاهتمام، فقد أعلنت مؤسسة سوفرس (Sofres) الفرنسية عشية الانتخابات الرئاسية (26/4/1988) إنّ لبنان جاء في طليعة البلدان التي يشعر الفرنسيون حيالها بالتعاطف والتضامن بنسبة 47%. لقد كان الوجود المسيحي في لبنان عاملاً مهماً وأساسياً في تحديد النظرة الفرنسية إلى لبنان حيث تقوم شرعية ذات ملامح مسيحية وتقوم أول جمهورية ديمقراطية في العالم العربي. وكان طبيعياً أن تسعى فرنسا لجعل لبنان دولة منحازة لها.
4 – على أنّ الأحداث التي عصفت بالمنطقة وبلبنان في الربع الأخير من القرن العشرين جعلت المسؤولين الفرنسيين يعيدون حساباتهم بالنسبة للموقف من لبنان. وهو ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران إذ قال: «إن فرنسا هي بين الدول التي يهمّها مصير لبنان وهي متنبهة للمخاطر التي تهدد وجوده ومستعدة للعمل في اطار الأسرة الدولية للحفاظ على مصالح لبنان الأساسية» (25/5/1981). كما أكد رئيس الوزراء الفرنسي بيار موروا، أنّ فرنسا لا يمكنها التخلي عن اهتمامها بلبنان ولن تفعل. ولا التخلي عن مستقبله وعن احتفاظه بحدوده وبسط سلطة حكومته وسيادة شعبه. وهي مصممة مهما كانت الصعوبات والأخطار على المساعدة في ايجاد حلّ للمسألة اللبنانية، (26/5/1982).
5 – كيف يمكن لفرنسا أن تحافظ على لبنان: الدولة والكيان؟ وجاء الجواب واضحاً وصريحاً: بالدعوة إلى حياد لبنان باعتباره الحل الوحيد الممكن والمناسب للمسألة اللبنانية. فلقد دعا السيد كلود شيسون «إلى تحييد كامل الأراضي اللبنانية» على أن يكون حياداً مضموناً على الطريقة السويسرية «إذ ان حياد لبنان هو الحل» وصيغة لبنان لا يمكن ان تكون إلا صيغة حيادية، وفي قناعته أنّ «صيغة الحياد هذه ينبغي ان تقر بناءً على طلب اللبنانيين على ان تعترف بضمانات جيران لبنان والدول الكبرى». ويأخذ السيد شيسون على الحكم اللبناني أنه لم يأخذ باقتراحه حول حياد لبنان الذي عرضه على المسؤولين اللبنانيين عام 1983.
6- السيد ليونيل جوسبان يرى ضرورة تحييد لبنان كأفضل حلّ للمعضلة اللبنانية. والسيد جاك سويغيرت الناطق باسم الحزب الاشتراكي في السياسة الخارجية يرى أن الحلّ الجدير بالحياة في لبنان هو نوع من أنواع الحياد. فحياد لبنان هو ضرورة لحلّ مشكلته. السيد فرنسوا دي غروسوفر مستشار الرئيس ميتران حمل مشروعاً لحياد لبنان وعمل على اقناع الدول به ومنها الفاتيكان (1/5/1995). كما عرض مسؤولون فرنسيون فكرة حياد لبنان على وزير الخارجية السوري فاروق الشرع لدى زيارته لباريس (أيار/1985) .
من الاستيعاب إلى التحييد
باختصار لقد تحوّلت السياسة الفرنسية إزاء لبنان، من أقصى درجة العمل لانحياز لبنان واستتباعه إلى فرنسا، إلى أقصى درجة العمل لتحييد لبنان إزاء دول العالم أجمع القريبة منه والبعيدة عنه بما فيها فرنسا ذاتها. ما الذي قاد إلى مثل هذا التحوّل؟ إنها في اعتقادنا العودة إلى الحقائق العلمية في العلاقات الدولية. إلى قواعد الجيو- بوليتيك التي تصنّف الدول في طبيعتها وعلى أساس هذا التصنيف تختار لها الحلّ المناسب لقضاياها ومشاكلها. لقد انتقلت السياسة الفرنسية في لبنان من إطار العواطف والانفعالات والتراكيب السياسية… إلى تحديد طبيعة لبنان الدولة والكيان من أنّه، وبحسب المراجع العلمية الفرنسية ذاتها، دولة – حاجز. والحلّ الوحيد للدولة الحاجز، الواقعة بين دولتين توسعيتين هما اسرائيل وسوريا لن يكون إلاّ باعتماد حياد الدولة اللبنانية. من هنا أصبح المسؤولون الفرنسيون أول دعاة وحماة فكرة حياد لبنان وتحييده، اي ايجاد الحلّ المناسب للبنان بعيداً عن المراهنات السياسية المضللة! اليوم، تسعى السياسة الفرنسية لايجاد الحل خارج حياد لبنان وضمن ألاعيب اقليمية لا تحل شيئاً. بل تزيد المشاكل تعقيداً، فهل ننصح الرئيس ماكرون بأن يطلب من مستشاريه الاستراتيجيين إعادة قراءة كتاب «الجغرافيا السياسية» لفريدريتش راتزل، أم كتاب «سياسة الدول وجغرافيتها» لجان غوتمان؟
إنّ الطريق إلى الحلّ الوحيد والمناسب للبنان معروف، ولكن، هل من يجرؤ على اعتماده لانقاذ وطن الأرز؟… وتلك هي المسألة!!
(*) باحث في الفكر الجيو سياسي