تلتزم باريس جانب الصمت إزاء التحذيرات المفاجئة التي أطلقتها دول خليجية لرعاياها في لبنان. ويرشح عن الإدارة الفرنسية أنّها ستواصل مهمّتها في لبنان، مهما تعاظمت الصعوبات. وفي أي حال، هي مقتنعة بأنّ أياً من القوى الإقليمية أو الدولية لا يريد التفريط بالاستقرار اللبناني.
يقول ديبلوماسي لبناني سابق: في العمق، ما أراد الفرنسيون يوماً إنهاء انتدابهم بالكامل على لبنان. فمصلحتهم تقتضي باستمراره في الحدّ الأدنى، وبالمعنى الإيجابي. وأيضاً، يجدر الاعتراف بأنّ اللبنانيين جميعاً، باختلاف مكوناتهم، موافقون على هذا النوع من الانتداب، ولا يريدون الاستغناء عنه. في الأساس، كان الموارنة هم الأكثر حماسة، ثم السنّة، واليوم الشيعة. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم الدور الذي اضطلعت به فرنسا في كل الأزمات التي مرّ فيها لبنان منذ الاستقلال، والذي تؤديه اليوم.
منذ اللحظة الأولى لانتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وقع الخلاف بين باريس وواشنطن على التشخيص والمعالجة. ففي البداية، تَشارَك الفرنسيون والأميركيون في الدعوة إلى الإصلاح وتغيير الطاقم المسؤول عن الفساد. ولكن، عندما تحوّلت الانتفاضة انهياراً شاملاً وهدّدت باندلاع تصادم أهلي، خاف الفرنسيون من أن يصبح لبنان ورقة ضغط أو مساومة في صراع واشنطن- طهران، وحذّروا من أنّه سيكون كبش المحرقة، وعلى الأرجح سيسقط في أيدي إيران واقعياً. ولذلك، حرص الفرنسيون على إنهاء الأزمة بابتكار مخرج سياسي يرضي الأطراف جميعاً. لكن المحاولة فشلت، حتى بعد انفجار المرفأ، في آب 2020، عندما وضع الرئيس إيمانويل ماكرون كامل ثقله شخصياً لإنهاء الأزمة، من دون جدوى.
عملياً، أراد الفرنسيون أَلاّ يخسروا ثقة واشنطن في قدرتهم على إنتاج تسوية تحفظ مصالحها. وفي المقابل، أرادوا إقناع طهران بأنّ التسوية لن تكون انتقاماً منها أو إقصاء لها في لبنان.
وفي الواقع، حصل الفرنسيون على تفويض الطرفين لإنتاج هذه التسوية شبه المستحيلة. ولكن، لا واشنطن ولا طهران قدّمتا التنازل الذي يسهّل الحل. وانتظر الطرفان نتائج المفاوضات الشاملة بينهما في فيينا.
وحتى في ذروة الحصار الأميركي لطهران، على خلفية الملف النووي، بقيت فرنسا، كما سائر حليفاتها الأوروبيات، تخرق العقوبات المفروضة على إيران، وساعدتها في تصدير نفطها، باستخدام وسائل المقايضة. وهذا ما أثار غضب الإدارة الأميركية.
كان في تقدير فرنسا أنّ تسليف طهران سيشكّل رصيداً لديها يمكن استثماره لتدعيم دور سياسي فاعل في الشرق الأوسط. ولبنان هو إحدى النقاط التي توليها باريس أهمية بالغة في هذه المنطقة.
ويتحدث خبراء عن دور للفرنسيين في تشجيع مسار التطبيع بين إيران والسعودية، استناداً إلى رصيدهم الوازن لدى المملكة وقيادتها. فالرياض منحت باريس دوراً أساسياً في إدارة مشروع النهضة الذي تطمح إلى تنفيذه. وهذه العلاقة الوطيدة بين فرنسا والمملكة هي التي سمحت للثنائي بأن يضطلعا بدور مميز من أجل التسوية في لبنان، داخل لقاء باريس الخماسي.
واليوم، يستثير حفيظة الفرنسيين دخول الأميركيين بقوة على الخط السعودي لتشجيع التشدّد في مواجهة إيران. وهذا الموقف المستجد من شأنه أن يزرع المزيد من الشكوك في إمكان التوصل إلى تسوية سياسية في لبنان خلال فترة قريبة.
ولذلك، ترتكز خطة العمل الفرنسية في الأسابيع المقبلة إلى الآتي: التعاطي مع المواقف الصاخبة المرفوعة حالياً، من جانب الولايات المتحدة وإيران والمملكة العربية السعودية، باعتبارها جزءاً من عمليات التفاوض، حيث الجميع يطلب الكثير ليحقق أفضل الممكن.
ولذلك، سيمضي الفرنسيون في وساطاتهم، بدءاً من أيلول، وسيواظبون على تحريكها في شكل حثيث، داخل اللجنة الخماسية وخارجها، سعياً إلى تحقيق تسوية ترضي الجميع. وسيحاولون إطلاق مسارات الحوار، بأشكاله المختلفة، في أيلول. فعلى الأقل، هذا الحوار يسمح لباريس بتظهير دورها في الوساطة ورعاية المفاوضات، ولو لم ينجح في إنتاج تسوية سياسية في المدى المنظور.
ويقول مطلعون على الموقف الفرنسي إنّ لباريس مصالح مادية مهمّة وحضوراً معنوياً وازناً في لبنان، البقعة الفرنكوفونية الوحيدة على البوابة الشرقية للمتوسط، ولا يمكن لباريس أن تتخلّى عن هذه البقعة لأحد. ولذلك، سيصبر الفرنسيون كثيراً، ولو كانت مهمّة موفدهم الرئاسي جان إيف لودريان شائكة، في أيلول أو بعده. وهم لن يسحبوا أيديهم من لبنان، أياً كانت نتائج المفاوضات التي يخوضون غمارها، وسينتظرون مهما تأخّر موعد التسوية.