مطلع تشرين الأول/ أكتوبر، خرجت المجلّتان الجادّتان «الأكسبرس» اليمينية، و«نوفل أوبس» اليسارية بغلافين يعبّران عن هموم معسكريهما.. بعد ستة أشهر تبيّنت واقعية طرحهما. الأولى كتبت «مذابح صغيرة بين أصدقاء». الثانية كتبت «الصاروخ» مع صورة لمانويل ماكرون. «المذابح الصغيرة» تحوّلت الى كبيرة ومن دون رحمة. أما ماكرون فقد أثبت أنه «صاروخ» حقيقي انطلق من وزارة المالية الى الوجه الأبرز لمرشحي الرئاسة من اليسار واليمين على السواء.
هذا النجاح الإعلامي، قابله يومياً فشل سياسي، لم تعرفه فرنسا، ليس في «الجمهورية الخامسة» فقط وإنما ما قبلها بكثير. فرنسا التي تُفاخر يومياً بأنها «لا تملك نفطاً وإنما أفكاراً»، ها هي تقف في العام ٢٠١٧ جمهورية فقيرة جداً، فهي لا تملك النفط ولا الأفكار ولا حتى الرجال، الى درجة أن الفرنسيين مصابون بالحيرة: «الى أي مرشح بين المرشحين السيئين سيقترعون؟». ولا شك أن غالبية كبيرة من بين أحزاب اليمين واليسار معاً كانت تفضل البقاء في المنازل أو الاقتراع بورقة بيضاء لولا
تضخم الخوف من فوز مارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف، بعد أن تأكد للجميع أنها ستكون الأولى في الدورة الأولى، وأن خصمها كائناً من كان يتطلب تقدمه عليها في الدورة الثانية «تسونامي» شعبياً كما حصل مع الرئيس جاك شيراك.
كيف وقعت فرنسا الى هذا الحد وفي هذا المستنقع؟
بداية، وجد الرئيس فرنسوا هولاند نفسه أمام استحالة الفوز في ولاية ثانية بسبب هبوط شعبيته الى أدنى مستوى بين كل رؤساء «الجمهورية الخامسة»، بعد أن تفككت من حوله حتى الدائرة الصغيرة من العاملين معه في الحكومة وأبرزهم إيمانويل فالس رئيس وزرائه وبعده إيمانويل ماكرون، ويبدو أن النقطة التي أفاضت كأس هولاند كانت ما تسرّب اليه من أن طليقته سيغولين رويال والمرشحة السابقة للرئاسة والوزيرة المدللة معه حرّضت ماكرون ووعدته بتأييده سراً. والواقع أن ما توقعه هولاند حصل. فقد ترشح فالس ثم تقدم ماكرون مستقلاً بعد أن أصبحت عنده حركة أطلق عليها اسم «الى الأمام»، تضخمت بسرعة قياسية بعد أن شدد على أن حركته ستلغي اليمين واليسار وستعتمد خطاً وسطاً. لكن قوة الدفع الحقيقية لماكرون كانت بعد أن سقط فالس في الانتخابات التمهيدية وفاز هامون المجهول نسبياً، إضافة الى ذلك فإن هولاند الذي استاء من فالس دعم ماكرون ولم يتحمّس لهامون اليساري المنفتح على اليسار المتشدد مثل ملانشون. من هذا المسار يبدو واضحاً أن ما جرى كان بين أفراد وليس بين أفكار، ولذلك حتى الآن لم يرسل المرشحون من الجهتين برامجهم الى الناخبين كما جرت العادة.
أما على صعيد اليمين فالكارثة أكبر، لأن ما حصل حتى الآن حروب صغيرة بـ«السكاكين الطويلة». بداية كان «الساقط» الكبير نيكولا ساركوزي، الذي يبدو أنه يعمل على قاعدة: «لا ترغبون بي فلتكن الفائزة لوبان» واليمين المتطرف. ولذلك عمل وحتى تآمر لإسقاط آلان جوبيه الذي بدأ الجميع التعامل معه على أساس أنه الرئيس المقبل، ونجح بالتعاون مع فرنسوا فيون، حتى إذا كشفت صحيفة «الكنار اونشينيه» الساخرة والواسعة الاطلاع عن حب فيون للمال وإسناد وظيفة وهمية إلى زوجته، طارت الرئاسة من اليمين خصوصاً أن جوبيه اختار احترام كرامته الشخصية على إنقاذ اليمين بعدم تلبية الدعوات للترشح من جديد.
أسباب كثيرة وراء هذه الانتخابات الرئاسية الهزيلة، فهي لم تحصل من فراغ ولا هبطت من السماء. المشكلة الأولى والأساسية أن «الجمهورية الخامسة» قد شاخت وتكاد تدخل في «موت سريري» مُعلن. السؤال هل يستطيع رئيس شاب مثل ماكرون قيادة الانتقال بفرنسا نحو «الجمهورية السادسة»؟، وهل يستطيع فيون إذا انتُخب، وهو ليس أمراً مستحيلاً وإنما صعب، أن يضخ الحياة في «الجمهورية الخامسة» وهو شخصية إصلاحية في أكثر حالاته المتقدمة؟
وأخيراً ماذا إذا وقع المستحيل وفازت لوبان (علماً أن فشل اليمين المتطرف في هولندا قد منح الفرنسيين مزيداً من التصميم على إسقاطها)، ماذا سيحدث لفرنسا؟