لمْ تنتهِ الحرب في غزة. لكن الهدنة فتحت الباب أمام أطراف الصراع الخارجيين لمحاولة إعادة ترتيب أوراق المنطقة. سؤال ماذا بعد الحرب في غزة، يستجلب أسئلة عن ماذا بعد 7 أكتوبر أيضاً في بلدان أخرى، على رأسها لبنان، لكونه الأكثر تأثّراً وتأثيراً في التداعيات التي ستبدأ بالظهور تباعاً في حال تمديد الهدنة وصولاً إلى وقف إطلاق النار.ولعلّ مخاطر استمرار التصعيد أصبحت هي الدافع الآن للبحث عن «تفاهم» لتحييد لبنان الذي أكّدت جبهته الجنوبية أنها رأس حربة في الدفاع عن القضية الفلسطينية، وجاهزة لخوض الحرب وفق التطورات، ما رفع منسوب المخاوف الدولية مما يُمكن أن يحدث على أرض الجنوب واحتمالات تمدّده إلى مواجهات إقليمية. لذلك، وجدت بعض الجهات في هذه اللحظة فرصة لتكريس دورها على المستوى السياسي، واستئناف وساطتها علّها تستطيع هذه المرة الظفر بحلّ تكون هي عرّابته، على المستوى الرئاسي وكل ما يرتبط به من ملفات.
على هذا الأساس أتَت زيارة الموفد القطري جاسم آل ثاني (أبو فهد) إلى بيروت حيث أجرى جولة أفق عاد بعدها إلى الدوحة. ومن دون الدخول في تفاصيل صارت معروفة بشأن شكل الزيارة ومضمونها، والرسالة التي نقلها، قالت مصادر سياسية بارزة إن زيارة الموفد القطري جاءت بعد اجتماع للجنة الخماسية الخاصة بلبنان (الولايات المتحدة، السعودية، قطر، فرنسا ومصر)، وأظهرت المداولات الجانبية على هامشها أن لا اتفاق بينها حول الملف اللبناني. ولذا فإن الحركة الدبلوماسية التي بدأها «أبو فهد»، ويستكملها المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان (يصل مساء اليوم إلى بيروت أيضاً) قائمة على التالي:
أولاً، سعي الدوحة إلى تكريس حضورها في لبنان، استكمالاً للدور الذي قامت به في غزة بين «حماس» وكيان الاحتلال للتوصل إلى صفقة التبادل والهدنة. الدوحة التي ظلّت (في العلن) في موقع المحايد مع الحفاظ على مواقف سياسية «مُطمئنة» للجميع تريد استثمار هذه المواقف في ساحات أخرى، في مقدّمها لبنان. وقد بدأ القطريون مباحثات مع الرياض في هذا الشأن لاستئناف الفرصة التي أُعطيت لهم قبلَ «طوفان الأقصى»، لكن يبدو أن للسعوديين رأياً آخر.
ثانياً، لا يزال الموقف السعودي ينطلق من قاعدة أساسية متصلّبة بعدم الانخراط في أي تسوية. والسعوديون على عكس القطريين والفرنسيين يعتبرون أن المشهد الأساسي منصّته غزة وترجمة أحداثها على مسار الملفات التي كانت قائمة سابقاً، ولا سيما التطبيع. وتتلاقى الرياض مع واشنطن حول نقطة أساسية في لبنان وهي: أن التركيز يجِب أن يُصبّ على الوضع الأمني، بداية بضبط أي تصعيد على الجبهة الجنوبية، ثم الحفاظ على وضعية المؤسسة العسكرية بالتمديد للقائد الحالي العماد جوزف عون. وتتعامل العاصمتان مع الملف اللبناني على قاعدة أن الظرف الحالي لا يسمح حالياً بتسوية رئاسية ولا صفقة تبادل سياسية بين الأطراف المتصارعة في لبنان. وهذا الأمر بالنسبة إليهما يمكن تعليقه إلى حين وضوح الرؤية في المنطقة.
لودريان يأتي في توقيت غير صائب على الإطلاق ولن يجِد أيّ تجاوب معه
ثالثاً، فيما تقف مصر في موقع المراقب، تجد فرنسا نفسها مضطرة للتحرك بالتوازي مع الحراك القطري في منافسة غير علنية. فورَ بروز مؤشرات على الحراك القطري أرسلت باريس قبل أسبوعين رسالة مع سفيرها في بيروت هارفي ماغرو تسأل فيها عن مدى استعداد القوى السياسية المحلية للتجاوب مع لودريان في حال زار لبنان. ورغمَ أن الجواب لم يكُن مشجّعاً، قرّرت باريس إيفاد مبعوثها بهدف صياغة تفاهمات على تسوية ربطاً بأي تطورات إيجابية محتملة في المنطقة.
وفي هذا الإطار، تقول مصادر مطّلعة إن مهمة لودريان لها أكثر من هدف، الأبرز بينها تكريس فرنسا كشريك في أي تسوية لاحقة، وحماية دورها الذي بدأته بعد تفجير المرفأ في 4 آب 2020، وتكرار الدعوة إلى ضرورة التهدئة على الجبهة الجنوبية. والأهم من ذلك كله، تصحيح صورتها التي تضرّرت خلال الحرب على غزة جراء المواقف المنحازة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والتي كان صداها سيئاً جداً لدى القوى السياسية اللبنانية وتحديداً حزب الله.
واعتبرت المصادر أن «لودريان يأتي في توقيت غير صائب على الإطلاق، إذ لن يجِد أي تجاوب معه على عكس الموفد القطري. فضلاً عن أن الطرف الأساسي في المعادلة اليوم، أي حزب الله، ليس في وارد النقاش في الملف الرئاسي. فهو لا يزال يركّز على ما حصل وسيحصل في غزة، والرهان على إمكانية أن يكون الحزب قد بدّل موقفه في الملف الرئاسي وسيكون في موقع المفاوض على ما يريده هو رهان خاطئ. فالحزب حالياً أكثر تمسّكاً بشروطه ومطالبه. هذا ما سمعه الموفد القطري الذي غادر خالي الوفاض، وهو ما سيسمعه أيضاً لودريان.