لا تكمن عبثية الرسالة الفرنسية إلى الأطراف اللبنانية بمحاولة باريس إيجاد حل أو تأكيد التزام القادة اللبنانيين علناً بمواقفهم، بل تتعلق بقدرة فرنسا على ربط الأجوبة بحل سريع وعدم تضييع الوقت مرة أخرى. وإلا ذهبت المحاولة الفرنسية أدراج الرياح
في زيارته الثانية لبيروت، بدا الموفد الفرنسي جان إيف لودريان كأنه غير متحمس للقيام بزيارة ثالثة في غضون وقت قصير، إذا لم تكن هناك توقعات يبنى عليها. بعد لقاء الدوحة الخماسي، بدت لقاءاته من باب استكمال الواجب الديبلوماسي ليس أكثر، ومحاولة فرنسية جديدة لتطبيع الوضع وتخفيف التشنّجات، بما يمدّ من عمر الاستقرار ولو على حساب طول الأزمة. وهو خفّف مسبقاً من جدول لقاءاته مع الشخصيات التي التقاها سابقاً، ودفعته انطباعاته في الزيارة الأولى حول بعض من التقاهم، الى إجراء مراجعة شاملة بكل ما سمعه في اللقاءات الأولى والثانية وتقليل التوقعات التي كان يراهن عليها البعض محلياً وخارجياً.
مع ترحيل الزيارة الثالثة الى أيلول – وهي حتى الآن مرهونة بأوقاتها – فإن الفكرة «المتواضعة» التي خلص إليها الفرنسيون، جاءت في الرسالة التي وجّهت الى النواب الـ 128 وخرقت الجمود في الملف الرئاسي. وقد تكون الرسالة الفرنسية خطوة ديبلوماسية غير معهودة في سياق عالم الديبلوماسية الفرنسية أو حتى عموماً، إلا أنها تعكس رؤية فرنسية غير جديدة بالمعنى الحرفي، وإن كانت أكثر فجاجة في أسلوبها وفي تعاملها مع القيادات اللبنانية على السواء.
تتعاطى بعض القوى السياسية مع الرسالة على أنها تتسم بفوقية واستعادة ملامح الانتداب الفرنسي الذي لم يكن تعامله مع السلطات القائمة آنذاك تعامل الند للند سياسياً وديبلوماسياً. لكن الرسالة تضمنت أكثر من مغزى.
في اللقاءات التي عقدها، سمع لودريان كثيراً من الآراء. لكن، في المقابل، أعطت بعض القيادات اللبنانية تفسيرات وتحدثت عن اللقاءات أحياناً كثيرة بغير ما كانت عليه. وإذا كان الموفد الفرنسي نفسه سبق أن انتقد الطبقة السياسية اللبنانية، فقد حرص في زيارتيه على إبعاد موقفه الخاص عن مقاربته السياسية. ولعل هذا مغزى الرسالة. فالهدف منها ليس استخلاص أجوبة نهائية عن السؤالين المذكورين، لا من جانب الفرنسيين ولا من جانب اللبنانيين، بقدر ما هي رغبة في إقفال مجال التكهنات حول حقيقة مواقف القوى السياسية من الأسئلة التي سبق أن نوقشت في الاجتماعات السابقة. ويعكس هذا الأداء قلقاً من لغة مزدوجة أو كلام يقال علناً يعاكس ما يقال في الاجتماعات. لكنه يأخذ أيضاً الملف اللبناني الى مكان أكثر حساسية.
تتعاطى بعض الشخصيات اللبنانية مع فرنسا عموماً من موقع مغاير لرؤية الإدارة الفرنسية. فالإعلام والقضاء الفرنسيان يتصرّفان من زاوية مختلفة لجهة فهم حقيقة الواقع اللبناني بكل تشعباته السياسية والمالية والفساد الضارب في الطبقة السياسية. وتجلّى ذلك في ملفات قضائية مالية وفي انفجار المرفأ والإضاءة على ملفات الفساد في لبنان وطريقة إدارة الإليزيه لحل الأزمة السياسية. لكن هذه الوقائع لم تنعكس على أداء فريق الرئيس إيمانويل ماكرون، حتى تعيين لودريان، ما عدّ تحولاً جوهرياً في هذا المسار.
الأسئلة تضع باريس في موقع ملتبس وتعيد الملف اللبناني في حال التعثّر إلى نقطة خطرة
لكن ما حصل، أخيراً، أعاد طرح الشكوك علانية. فبغضّ النظر عمّا ستكون عليه مواقف القوى السياسية المعنية والكتل النيابية – علماً أن ما صدر حتى الآن كان سلبياً تجاه الرسالة في حدّ ذاتها – تكمن مشكلة الخطة الفرنسية في أمرين: أولاً أن السياسة ليست ثابتة، وهي دائماً في تحرك مستمر. والأجوبة التي تطلبها باريس ستكون مرهونة بالوقت الحالي، وبقدرة باريس على تقديم أجوبة للأجوبة التي تتلقّاها. وإذا لم تكن قادرة على وضع خريطة للحل وتحديد إطار سريع له، يتبع ما ستتلقاها من ردود، فإن الفائدة المرجوة منها ستذهب هباء. وتالياً، يمكن لمتغيرات كثيرة أن تدخل في صلب الحدث اللبناني وتعيد تموضع مواقف القيادات المعنية. فكلما طالت مهلة نقاش الأجوبة، إذا حصل عليها الفرنسيون، تغيّرت المعطيات ومعها استراتيجيات هذه القوى، ولا سيما أن فرنسا لا تقود منفردة جهود حل الأزمة، وهي وضعت نفسها مجدداً، بعد مشاركة لودريان في اللقاء الخماسي وإجرائه اتصالات عربية في الإطار نفسه، ضمن حلقة أوسع. وهنا تكمن حساسية الأمر الثاني وهو الذي بدأ يترك علامات استفهام خارجية. ففرنسا تسلك مجدداً طريقا آخر قد يساهم في إضاعة الوقت أكثر، إذ إنها دخلت على خط الأزمة منذ ثلاث سنوات، وأعطتها الدول العربية وواشنطن المهلة الكافية للتواصل مع الجميع من دون استثناء، ولو عن غير اقتناع بإمكان نجاحها. ومع مرور الوقت وتتابع الأحداث، لم تتمكن من تحقيق أي خرق ولو بسيط في جدار الأزمة. لا بل إن مسلكها ساهم في إحداث تعقيدات، ما اضطرّ واشنطن والسعودية الى إعادة الإمساك بالملف مجدداً عبر اللقاء الخماسي. وهذا يضع باريس في موقع ملتبس، ويعيد الملف اللبناني في حال تعثّر الخطوات الفرنسية مجدداً الى نقطة خطرة، تفسح المجال أمام تدخلات من نوع آخر، ما يؤدي الى تعميق الأزمة وإطالة عمرها بدل تخفيفها.