Site icon IMLebanon

الموسم الفرنسي: التطرّف ليس حتمية تاريخية  

سمح الموسم الانتخابي الرئاسي الفرنسي للبنانيين بقسط من المتابعة السياسية الأكثر فائدة من استمرار دورانهم في الحلقات المفرغة المتعددة محلياً. سمح لهم الموسم الفرنسي كذلك الأمر باستشعار ما يقرّب المسافات بين أوضاعنا وبين أوضاع فرنسا.. وأوروبا.. والغرب.

لا بأس اولاً بفهم ان ازمة الديموقراطية التمثيلية وان كانت عالمية، فإن حضورها يختلف من بلد الى بلد. وكذلك بالنسبة الى الازمة المالية لعام ٢٠٠٨ فإن العالم لم يخرج من تداعياتها بعد، لكن اسلوب التأثر بها، والتفاعل مع تحدياتها، يختلف بحسب البلدان وبحسب المشاريع المطروحة في كل بلد.

فالنزوع الى التطرف والشعارات القصوية ليس حتمية تاريخية كونية. صحيح اننا قد نمضي القرن الحادي والعشرين كله بين نوبة شعبوية قومية وأخرى، لكن أشكال التحدي والاستجابة يتعذر اختصارها في نموذج واحد. اولاً دونالد ترامب ليس البركست البريطاني وليس مارين لوبان الفرنسية. وثانياً لسنا محكومين بمفاعيل لعبة دومينو عالمية.

هناك فارق يبقى بين التجارب الدستورية. لدى الولايات المتحدة وبريطانيا تجربة دستورية اكثر استقراراً من فرنسا. حتى الجمهورية الخامسة الفرنسية، اكثر الجمهوريات استقراراً في التاريخ الفرنسي، فإنها تأسست في البدء على انهيار سابقتها، وعلى انقلاب عسكري في أيار ١٩٥٨، وعلى لجنة وضع دستور بدلاً من جمعية تأسيسية، وعلى استفتاء حول مسودته، مع ان دستور الجمهورية الرابعة لم يكن يلحظ تعديله او استبداله بموجب استفتاء. وهذه الجمهورية الخامسة عرفت تحولاً آخر بعد ذلك بسنوات قليلة على بدايتها. عندما أقرّ انتخاب الرئيس بالاقتراع العام المباشر عام ١٩٦٢، وسط معارضة شديدة من اليسار تحديداً، الذي رأى في الجنرال ديغول إحياء لتجربة لوي بونابرت واستفتاءاته التي ضربت المؤسسات. في المقابل، لم تكن ثنائية يمين ويسار وتداولهما الحكم في بال ديغول. وعندما فاز بالرئاسة بالاقتراع العام عام ١٩٦٥ كان الرد عليه بتحريك الشارع، الشبابي ثم العمالي عام ١٩٦٨، ودفعه للاستقالة بعدها. لم تكن تجربة انسيابية تراكمية سهلة الجمهورية الخامسة. اليسار الفرنسي ايضاً طرح في سبيل الوصول الى الحكم مع فرنسوا ميتران شعارات جذرية وسقوفاً عالية كان قد تخلى عنها اليسار البريطاني والالماني منذ عقود. كانت شعارات ميتران مطلع الثمانينيات اكثر شعبوية من شعارات جان لوك ميلانشون. جاء ينادي بالتأميمات، ببناء الاشتراكية، باقتلاع قلاع الباستي الاقتصادية. بسرعة هائلة ظهر ان كل هذا سريالي للغاية في بلد كفرنسا، لم يتمكن اليسار من يومها من تجاوز الصدمة فيها بين الكلام والواقع، وكلما طرح احد داخله شعارات تدعو لانتهاج سبيل حزب العمال البريطاني او الحزب الاشتراكي الديموقراطي الالماني قامت القيامة عليه، انه يريد اخضاع البلاد للمصارف الاجنبية ويريد التنكر لتراث جوريس وليون بلوم والنضالات العمالية والشعبية. لكن عهد فرنسوا اولاند يفترض به انه انهى امكانية الاستمرار في هذا الانفصال بين الكلام والواقع في فرنسا. بدأ اولاند عهده بتطرف يساروي خوف رجال الاعمال، وأنهاه بالخضوع للواقع الاقتصادي والمالي كما تصوغه المفوضية الاوروبية. اياً كان الموقف من هذه النقطة او تلك في برنامج ايمانويل ماكرون، اياً تكن درجة وضوح برنامجه، يكفيه من هذه الناحية انه مصمم على احداث منطق جديد في معالجة الامور الاقتصادية والمالية، نال بالمناسبة استحسان الاشتراكية الديموقراطية الالمانية، ما أثار حفيظة الحزب الاشتراكي الرسمي، صاحب الرقم المتدني في الدورة الثانية.

التركيز في الاسابيع الماضية على ما يمكن ان تفعله مارين لوبان، أنسانا انه في مكان ما، ايمانويل ماكرون وان كان محتضناً من قبل المؤسسة المزمنة الحاكمة في فرنسا، لكنه ليس منها تماماً، او اقله، وصوله سيحدث فيها خضخضة. الليبرالية الاقتصادية مقرونة بالتقدمية السياسية والثقافية، لهذه المعادلة ايجابياتها ولها حدودها ايضاً. والاهم: يمكن التفاعل معها بالنقد والمتابعة. يبقى افضل من تجريب «حلول» مارين لوبان الانفعالية، والفاقدة للخيال، بقدر ما هي فاقدة للكاريزما.

نعود لبلدنا بدءاً من هذا الصباح فنجد ان شهر الانكباب على قانون الانتخاب قبل الجلسة النيابية المؤجلة قد أوشك على الانتهاء، وان الانفصال بين الكلام والواقع يكبر هنا ويكبر ويكبر.

التطرف له اشكال خطيرة في عالم اليوم.

ازمة الديموقراطيات عميقة.

ازمة النسق المالي العالمي، او اللانسق، ليست «تحت السيطرة»، مع ذلك، ليس التطرف قدراً. وليس الدوران في الفراغ حتمية لا مخرج منها أيضاً.