رغم أن جزءاً أساسيّاً من التوتر الأخير بين رئيس الجمهورية ميشال عون والوزير جبران باسيل من جهة، ورئيس الحكومة سعد الحريري من جهة أخرى، قام على خلفية الحوارات الثنائية مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الا ان النتيجة التي خلصت اليها النصائح الفرنسية، اقتصرت على حصول التوتر في العلاقات بين عون وباسيل والحريري من دون ان يأخذ اي منهم النصائح بجدية.
ابعد من الحساسيات التي خلقتها الحوارات الفرنسية، فإن باريس أبدت نصائح بالمعنى العملي في المجالات التي يفترض ان يحقق فيها لبنان تقدماً ملحوظاً على طريق تأمين متطلبات مؤتمر سيدر. لأن ما يطلبه الفرنسيون ترجمة الوعود الإصلاحية التي يشترطها سيدر من اجل الحصول على المساعدات التي يراهن عليها لبنان لتنشيط اقتصاده. وبهذا المعنى، لا تميز باريس رسمياً، ولا غيرها من الدول المانحة، بين الحساسيات والشخصانيات اللبنانية، لأنها تتعامل مع السلطة التنفيذية كسلطة متكاملة، من دون الفصل بين وعود رئاسة الجمهورية وتعهدات الحكومة، رغم معرفتها بتفاصيل الحياة السياسية ومكامن الخلافات. لكن هذه الدول لا تتدخل في التباين بين الحريري وباسيل في ملف الكهرباء والجبايات والتعيينات، ولا في كيفية محاربة الفساد، ولا في الخلاف حول نظام التقاعد والضرائب التصاعدية، لأن جلّ ما تركز عليه هو أن استمرار الوضع الاقتصادي على ما هو عليه، ينتهي الى خلاصة وحيدة: أموال سيدر مجمدة الى أن ينفّذ لبنان ما تعهّدت به حكومته في «سيدر»، بصرف النظر عمن سيكلَّف متابعة تنفيذها. واستطراداً فإن الفرنسيّين كما غيرهم من الأوروبيين الذين يرسلون رسائل دبلوماسية واضحة، فإن شتاء لبنان قاسٍ على كل المستويات الحياتية والاقتصادية والمالية، نتيجة لأزمات متراكمة، ولأن لا أموال ستصل في المدى المنظور، ما لم يسارع المسؤولون، مهما كانت هويتهم الى ترجمة الوعود بوقائع عملانية. وهذه وحدها تسمح لفرنسا بتقريشها لمصلحة اطلاق عجلة سيدر فعلياً، والإفادة منه في المقابل، عبر شراكتها في غالبية المشاريع الحيوية.
مشكلة هذه النصائح انها لم تجد صدى تفاعلياً لها سوى بانفجار الخلاف السياسي بين عون وباسيل في وجه الحريري والعكس بالعكس، من دون أن تأخذ الرئاستان بأهمية التحولات الأخيرة في النظرة الى لبنان وكيفية تعامله مع أزماته المالية والاقتصادية. فالوعود المالية التي حفلت بها الأشهر الماضية عن تحويلات مرتقبة سعودية ــــ خليجية الى لبنان، وتعهدات بدعم وودائع، تبخرت كلها، ولم يصل الى لبنان منها شيء. فالضغوط السعودية والخليجية لا يمكن ان تتوافق مع نوايا دعم الاقتصاد اللبناني والمالية العامة، فكيف اذا كانت النظرة السعودية الى العهد لا تزال على سلبيتها، مضافاً اليها حادثة ارامكو؟ والسعودية، كما يلمس حلفاء لها في لبنان، تبتعد تدريجاً عن احتضان اصدقائها ودعمهم كما جرت العادة، فكيف الحال برعاية الوضع اللبناني كله، وخصومها يشكلون رأس حربة فيه؟ أما الدعم الأميركي، فمعروف في اي اتجاه يصب تحديداً، عدا عن العقوبات المتشددة التي تسلك طريقها الى لبنان تصاعدياً.
هذا المشهد الإقليمي والدولي، فرض نفسه داخلياً، وباتت فئة اقتصادية وسياسية تتعامل معه بجدية، انطلاقاً من تجربة الأيام الأخيرة. وهي ترى ان الوضع الاقتصادي والمالي مقبل على ازمات اكثر حدة، ما لم تتخذ إجراءات جدية. فالسلطة لا تزال تتعامل مع كل التحذيرات، ومنها لخبراء اقتصاديين مشهود لهم، قالوا رأيهم علناً منذ اكثر من سنتين، من منطلق الاستهداف السياسي والشائعات، من دون الانتقال الى البحث الجدي الإنقاذي، ولا سيما ان أركان هذه السلطة، يقدم كل واحد منهم ورقة اقتصادية إنقاذية، تتساوى في سيئاتها، وكأنهم غير منضوين تحت سقف حكومة واحدة يفترض ان تقدم وحدها الرؤية الإنقاذية. والخطوات الارتجالية التي تجرى الآن، على غرار المكاشفات الاقتصادية في بعبدا، تنتهي حتى قبل ان تبدأ، ليدور الوضع مجدداً في حلقة مفرغة. لا بل ان قوى سياسية كثيرة ترى أن خطوات مصرف لبنان ستكون محدودة بالمكان والزمان، وسرعان ما ستصطدم بحائط مسدود عاجلاً او آجلاً، فضلاً عن ان السير بخطين متوازيين لسعر صرف الليرة، سيتحوّل، من الوجهة الاجتماعية والمعيشية، سلاحاً سياسياً، كما دلت تجارب الأزمات المالية السابقة. وإذا كان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قد أخرج نفسه من الأزمة، بفعل حيثيّته المحلية والدولية، فإن هذا لا يعني مطلقاً أن الأزمة المالية انحسرت، او أنها لم تنعكس سلباً على العهد والحكومة. ورغم ان العهد يقوم بمحاولة «ارتدادية» لمنع استهدافه، الا ان الصورة الإنقاذية تلتصق به لأنه قدم نفسه قبل ثلاث سنوات على هذا الأساس. وهي صورة لم يحاول رئيس الحكومة يوماً الظهور بها، بسبب إرثه السياسي والمالي، وأدائه الاقتصادي المتعثر في واقعه الخاص والعام. وهو هنا الحلقة الأضعف، لأنه يحاول عبثاً تحقيق إنجاز ما يثمر ترجمة فرنسية لـ«سيدر»، ولا سيما ان الضغوط السعودية عليه تتصاعد، وهو يحتاج الى عملية إنقاذ اقتصادية سريعة. وهذه هي نقطة الضعف التي يمسكها عليه العهد وباسيل تحديداً، ما يضطرّه الى السير معهما في كثير من الخطوات، فلا يفجر العلاقة معهما. مشكلتهما (العهد من جهة، والحريري من جهة أخرى) في الخلاف المستجد ليس على الرؤية الاقتصادية، بل لأن باريس كشفت أوراقهما، وتصرفت مع كليهما على أنها صاحبة كيس الأموال.