Site icon IMLebanon

من حلب إلى الموصل.. عودة الجدار العثماني

على أبواب الموصل٬ أطلق الأتراك والعرب صافرة الإنذار٬ وحذروا كل الأطراف المشاركة في تحريرها من مغبة اللعب بالتوازن السكاني للمدينة وما حولها. فخديعة مشاركة بعض الأطراف في هذه المعركة تحت ذريعة محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي٬ ما هي إلا غطاء من أجل فرض الهيمنة على هذه المنطقة. وفي قناعة الأتراك ودول الخليج أن هذه الجهات لن تتوانى٬ من أجل الوصول إلى أهدافها٬ عن دفع ميليشياتها الطائفية إلى تكرار ما فعلته في مناطق أخرى تم طرد التنظيم الإرهابي منها٬ والقيام بعملية تطهير عرقي تؤدي إلى تغيير ديموغرافي٬ مما سوف يخرج المعركة عن أهدافها٬ ويتحول الخلاص من «داعش» إلى كابوس٬ يؤدي إلى إخلاء الموصل من أهلها٬ في إطار سياسة تهجير منظم٬ تنفذها ميليشيات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني٬ الطامح إلى تأمين ممرات برية بين إيران وسوريا عبر شمال العراق٬ تؤمن لعدده وعتاده عبوًرا آمًنا إلى الشمال السوري وصولاً إلى مدينة حلب٬ وهذا ما استفّز أنقرة٬ ودفع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى رفع مستوى التحدي في تصريحاته٬ حيث أكد أول من أمس (الاثنين) أن قواته ستشارك في معركة تحرير الموصل «شاءوا أم أبوا».

تستحوذ الموصل وحلب على الحيز الأكبر من الذاكرة التركية العثمانية٬ خصوًصا بعد أن أعادت أحداث المنطقة المتسارعة الاعتبار لموقعهما الجغرافي٬ ضمن المجال الحيوي التركي٬ مما دفع أنقرة إلى المجاهرة بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي في لحظة اضطراب جيو ­ سياسية تعصف بالمنطقة٬ دفاًعا عن فضائها الاستراتيجي في سوريا والعراق. هذا التحول في الموقف٬ يعتمد في جزء من حساباته على الذاكرة العربية ­ التركية في غلافها العثماني٬ وفي محاولة استرجاعها٬ لتوظيفها في إطار المصالح

المشتركة بين الجانبين التركي والعربي٬ حيث يتوجب عليهما تنقية الذاكرة من رواسب تاريخية أليمة وضرورة تجاوزها.

ففي بداية القرن السادس عشر٬ لم تتأخر السلطنة العثمانية في الرد السريع والحاسم على تواطؤ الحاكم الجديد لإيران٬ شاه إسماعيل الصفوي٬ مع البرتغاليين والمماليك٬ ومحاولته المبكرة الالتفاف على الدولة العثمانية والاستعانة بالبرتغاليين من أجل الوصول إلى اليمن والحجاز٬ وبالمماليك بهدف الحصول على موطئ قدم في بلاد الشام٬ لكنه دفع الثمن سريًعا على جرائمه المذهبية في بغداد٬ التي احتلها سنة ٬1508 والتي فرضت عليه منازلة حاسمة مع العثمانيين في جالديران في عام ٬1514 وتلتها معركة مرج دابق سنة 1516 بين العثمانيين ومماليك مصر٬ الذين وقفوا إلى جانب الصفويين ضد العثمانيين٬ وقد شكل الانتصار العثماني في كلتا المعركتين نهاية للطموحات الصفوية في الولايات العربية٬ وإلى سيطرة السلطان سليم الأول على بلاد الشام ومصر٬ لتعيش إيران طوال قرون عقدة الجدار العثماني٬ الذي حاصرها داخل الهضبة الإيرانية وجعلها بين فكي كماشة تركي وعربي يشكلان الأغلبية الإسلامية.

وعليه٬ فقد شكل لقاء الرياض الذي جمع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي مع نظيرهم التركي يوم الخميس الماضي٬ نقطة تحول بّناءة تؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الثنائية٬ تفرض التوصل إلى حد أدنى من توافق المصالح٬ الذي يعزز القدرة تدريجًيا على التوصل إلى تفاهمات استراتيجية طويلة الأمد٬ تهيئ لقيام رؤية مشتركة حول أغلب قضايا المنطقة٬ من خلال إعادة تجميع للمكونين الرئيسيين العربي والتركي٬ باعتبارهما يشكلان الجدار العثماني٬ الذي كان لقرون عدة السد المنيع بوجه أغلب الغزاة الذين حاولوا العبور باتجاه شرق المتوسط.

مرة جديدة تستغرق طهران في قراءة الأحجام والإمكانيات وفًقا لشروطها٬ وتراهن على الطائرات الروسية في حلب٬ والأميركية في الموصل٬ من أجل القفز فوق حدود سايكس – بيكو٬ وتجاوز ثوابت مائة عام من الموروث العثماني الذي تتشارك أنقرة والعواصم الخليجية في الحفاظ على حدوده التاريخية في العراق وسوريا٬ وحماية التوازن السكاني الذي يتعرض لعملية تغيير مدروسة٬ مما يجعل احتمال الرد التركي السعودي الخليجي على العبث الإيراني والغطرسة الروسية أمًرا غير مستبعد٬ خصوًصا بعد التصريح الأخير لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير٬ الذي قال إن بلاده ستقدم المزيد من السلاح للمعارضة السورية٬ الذي لن يتم دون المشاركة التركية٬ التي ستجد نفسها قريًبا مضطرة للتوازن في علاقتها مع موسكو وطهران٬ حيث لن تقف مصالحها الاقتصادية معهما عائًقا أمام الدفاع عن حلب والموصل٬ بعدما أصبحت عملية درع الفرات والانتشار في قاعدة بعشيقة تحظيان بغطاء إقليمي.

دون أوهام أو رهانات مصيرية٬ حسم الأتراك وعرب الخليج أمرهم وأصبحوا أكثر استعداًدا لإنجاز تقاربات تحفظ لكل طرف خصوصياته٬ وما التحية التي ألقاها وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد على قبر مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك إلا المؤشر الصريح للمكان الذي تنطلق منه ورشة إعادة التأسيس للعلاقات التركية – الخليجية.