جرَت العادة في لبنان أنه كلّما كانت هناك مشكلة اقتصادية، اجتماعية، خدماتية، حياتية أو مشكلة خارج النطاق العادي نعالجها بالطرق السلبية أي بإقفال الطرقات والتي لم تؤدِّ يوماً إلى نتائج فاعلة على المدى الطويل ولكن تُعتبر حلولاً آنية موقتة… رغم أنّ هناك تفهماً كلياً لحال التشنّج التي يعيشها الجميع في بلد معزول برّاً عن العالم وفي الوقت نفسه إجراءات للتصدير والاستيراد، ولا نقصد الرسوم فقط، بل التعقيدات ومصاريف الـFOB التي تعود للشركات ونقليات داخلية هي من دون أدنى شك من الأغلى في العالم.
كان لا بدّ من هذه المقدمة لأقارب موضوع أزمة التفاح اللبناني وتصريفه اليوم وأفهم حسرة المزارعين الذين يُعوّلون على الدولة لمعالجة أزمتهم التي تتفاقم سنة بعد أخرى، حيث من المفروض أن تكون الدولة اللبنانية كالأب الحنون الذي ينظر الى أولاده بعين العطف والأبوّة ومحاولة تسيير أمورهم بعدالة، ولو اضطرّ الى الدفع من امواله لحلّ مشاكل أولاده، ولكنّ الأب فاسد في حالتنا اليوم قمرجي، أناني، يُبذّر أمواله في الأمكنة الخطأ، واضافة الى فساده وجهله هو أب مفلس لا يملك شيئاً.
وحتى لو استعاد نخوة الأبوّة فهو لا يملك الوسائل لمساعدة أولاده بأيّ شيء، وبالتالي حان الوقت لعدم اعتباره في الحسبان حين البحث عن حلول، حان الوقت لهذا الشعب أن يتأكد أنه يتيم، لَقيط، لا أب ولا أم ولا عمّ او عمّة ولا خال أو خالة… انسوا يا جماعة أهل الخير. هذه مجموعة من البشر بغالبيتها لم تدفع معاشاً واحداً في حياتها إلّا للخدم، أما المرافقون و«السواقون» فهم بالتأكيد على حساب الشعب المسكين!
والحلول لن تأتي من أناس هم أنفسهم عاطلين عن العمل ولا يملكون اعتباراً لما يُسمى الانتاج في الدرجة الأولى، والسياسات المتراكمة عبر السنين وأدّت الى ضرب كلّ القطاعات الانتاجية في البلد هي أبلغ دليل على ذلك.
الحلول تأتي من المزارعين أنفسهم ومن المنتجين في هذا البلد الذين يجب أن يستشرفوا حلولاً لمعالجة الأزمات ويستدركوها قبل وقوعها. فدائماً ستكون هناك مواسم خيّرة ومواسم غير خيّرة، وبالتالي يجب الانتقال بمستوى تصدير التفاح وتصريفه الى مستويات أكثر تقدّماً لا البقاء سجناء داخل الطرق التقليدية وإيجاد وسائل إنتاجية جديدة لتصديرها حول العالم.
فمثلاً الـApple chips أي Dehydrated chips هي من الأصناف المطلوبة عالمياً ولها أسواق كبيرة حيث يتمّ تقطيع وتنشيف التفاح، وهذه تملك Shelf life طويل الأمد وقابلة للتصدير الى كلّ بلدان العالم.
كما أنّ عصير التفاح وخلّ التفاح هما أيضاً من الأصناف التي باتت مطلوبة في السوق المحلّي والعالمي، وهي من المنتوجات الغذائية التي يمكن أن يتخصّص بها لبنان ويُروّج لها ويسعى الى تصديرها حول العالم، كما إنتاج صلصات للسلطات جديدة مصنوعة من خلّ التفاح اللبناني وزيت الزيتون اللبناني والسماق اللبناني لتصبح صلصة تحمل ماركة الإنتاج اللبناني حول العالم. وأيضاً هناك Apple cider، أي بيرة التفاح، وهي من الأصناف الرائجة اليوم لمنافعها الصحية والغذائية وممكن أن تتحوّل بحدّ ذاتها، سلعة عالمية.
هذا ويجب أن نفهم أنّ هناك مئات أصناف التفاح غير «الغولدن» و«الستاركينغ»، وربما حان الوقت أن نبحث في إنتاج أصناف جديدة من التفاح، وأن نولي أهميّة للتوضيب والتعبئة الجاذبة لا على طريقة «وجه الصحارة» المعتمدة لبنانياً، والبدء بحملة ترويجية للتفاح اللبناني والمشارَكة في المعارض العالمية، وهنا لا بد من التوجّه من خلال «إيدال» لتأمين المصاريف للمساعدة في المعارض العالمية بدلاً من دعم أكلاف التصدير لأننا لا نعرف أن نبيع إنتاجنا إلّا في «الحسبة»، زبون واحد من السوبرماركت العالمية يستطيع أن يشتري كلّ إنتاج لبنان حتماً إذا كان إنتاجنا وفق المعايير العالمية.
نعم يجب أن نتحوّل الى فكر إنتاجي، بدلاً من التشبّت بوسائل أثبتت فشلها، و»مين جرّب مجرّب بكون عقله مخرّب»، فيتمّ إقفال الطرقات وهدر التفاح وككلّ سنة لا نصل الى حلول جذرية في معالجة أزمة موسم التفاح.
وهذا لا يصحّ على المزارعين فقط بل يصحّ على كلّ القطاعات الإنتاجية في البلد، لننظر حولنا ونرى كم قطاع أقفل وكم قطاع يتخبّط، وعدد الصناعات التقليدية التي توقفت، في حين نرى الدول تنمّي سلعها ومواسمها وإنتاجها وتبتدع أفكاراً جديدة لتسويقها عالمياً.
يجب على القطاع الخاص أن يستلم زمام الأمور، ويبتعد عن الوسائل التقليدية التي تعتمدها الدولة، فلتبدأ عجلة الإنتاج الحقيقية وحينها يبقى على الدولة أن تقوم بدور الراعي عبر إزالة المعوقات ودعم الترويج لبضائع رابحة في الأساس.
ولا يخفيكم أنّ على الدولة اللبنانية عملاً أساساً في التخفيف من المعوقات التي تثقل كاهل الزراعي والصناعي، مثل إجراءات التصدير، فيجب أن تعتبر الدولة اليوم أنّ كلّ مصدر هو مقاوم اقتصادي في ظلّ ظروف خانقة حيث يجب أن تعمل جدياً لكي لا يتعدى سعر الكونتينر الـ20 قدماً مصاريف الـ200 دولار لوضعه على ظهر الباخرة، كما ألّا تتعدى تكاليف كونتينر الـ40 قدماً الـ300 دولار لوضعه على ظهر الباخرة.
هذا أضعف الايمان، كما على الدولة أن تكون الراعي الأساس لكلّ عمليات الترويج للبضائع اللبنانية، فالمجتمع الذي لا ينتج لن يتمكن من السيطرة على زمام الأمور وسنبقى في حال التخبّط التي نعيشها.
والأهم على الدولة اللبنانية أن تكون محاوِراً شرساً في ما خص الاتفاقات التجارية التي تربط لبنان، فمنظمة التجارة الحرة أعطت الدول حق حماية نفسها إذا تمّ الاثبات أنّ هناك إغراقاً يضرّ بأحد القطاعات المنتجة في البلد وهذا ما طالبنا به قبل إقفال معمل السيراميك الذي شرّد مئات العائلات، وها هي أزمة التفاح اليوم تُهدّد مئات العائلات الأخرى.
لا يتحمّل لبنان بعد اليوم البقاء بعيداً عن الانتاج. الدولة لن تستطيع أن تلعب دور الحامي الاجتماعي، فهي لا تملك الوسائل، ولا القدرة، الكرة اليوم في ملعب العقول الإنتاجية ولا زلت أؤمن بأنّ خلاص هذا البلد لم ولن يتحقّق إلّا بالإنتاج الصحيح والذكي، الإنتاج المبدع.
تفاحنا اليوم يمكن أن يكون على رفوف متاجر العالم، عبر العديد من المنتوجات، فهل نحن جاهزون للتحدي، أم إنّ جلّ ما سنقوم به هو رمي التفاح على الأرض وإقفال الطرقات والبكاء على الأطلال؟