من خيار «الجيش هو الحل» الى خيار «الرئيس هو الحل»، تُختصر تجربة 28 عاماً على طريق وصول الرئيس ميشال عون الى قصر بعبدا. الرجل الذي يُنتخب اليوم بأوسع اجماع سياسي، بما في ذلك احتشام الاوراق البيض، هو نفسه احيط بأوسع انقسام وطني في ما مضى
يولد البعض كي يكونوا رؤساء ككميل شمعون، والبعض يصنعون مهابة الرئيس والدولة كبشارة الخوري وفؤاد شهاب، والبعض يتغطرس على الرئاسة كريمون اده، والبعض يطلبها كي تقتله كبشير الجميل ورينه معوض، والبعض الاخير يجرها اليه بالقوة كميشال عون. ثمة ايضاً مَن تأتي الاخطاء والحظوظ به رئيساً ويغادر وبالكاد يترك وراءه اسماً لا يتذكره احد سواه.
يوم ترأس حكومة عسكرية انتقالية في ربع الساعة الاخير من ولاية الرئيس امين الجميل، قبيل منتصف ليل 22 ايلول 1988، تصّرف الرئيس ميشال عون على انه يترأس الجمهورية فحسب. لم تكن تلك السابقة. قبله خبر التجربة نفسها قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيس حكومة موقتة خلفاً لرئيس استقال لتوه هو بشارة الخوري في 18 ايلول 1952. لم تعش حكومة شهاب سوى خمسة ايام. لم يزر قصر الرئاسة في القنطاري، وقد انتقلت الى حكومته صلاحيات الرئيس. لم يُقم في السرايا كرئيس حكومة سوى ساعات قليلة وقع فيه معاملات ادارية. ما خلا ذلك لزم مكتبه في قيادة الجيش.
عندما دخل عون الى قصر بعبدا ليلتذاك، كان ينتظره في الغد يوم آخر هو ما كان يتوقعه. ان يكون رئيساً فعلياً للجمهورية، غير منتخب الى ان يحين اوان انتخابه. اجرى في الساعات التالية، ثم لبضعة ايام تالية، تعيينات عسكرية وامنية وادارية اساسية. استقبل سفراء، ترأس مجلس الوزراء جلسة تلو اخرى. لم يصرّف الاعمال مقدار ما بدا يدير حكماً مكتمل المواصفات على وفرة ضغوط جبهته، تارة برفض الاعتراف بشرعية حكومته، وطوراً بارغام الوزراء المسلمين الثلاثة على الاستقالة منها. لم يتردد فجر 5 تشرين الثاني 1989، ساعات قبل انتخاب معوض رئيساً، في الاقدام على حل مجلس النواب عارفاً في الوقت نفسه باستحالة اجراء انتخابات نيابية.
ما بين عامي 1988 و2016 هدف واحد هو ترؤس الجمهورية
ادار ظهره للاستحقاق الذي عيّن في سبيل الاشراف عليه وهو انتخاب رئيس، وبدا له المنصب امتلأ حقاً.
كان يكفي ان يتذكر بعض ضباطه لاشهر قليلة خلت ما سمعه بعضهم منه، في حلقات ضيقة، يتذمر كقائد للجيش من علاقته بالسلطات السياسية. من دون ان ينتبهوا الى معظم ما كان يضمره راح يقول: لن يدعونني اصل. يعرفون انني اذا وصلت سأمنع الفساد واحاسب وازج في السجون وافرض وجود دولة قوية وجديدة. ثم لا يلبث ان يختم حديثه: مع ذلك سأصل.
اوحى تكراراً ان السياسيين يقفون عقبة في طريقه. لم يخفِ مرة اعتقاده بما قد يتوقعه: لن اصل في السيارة الرسمية، بل بالقوة.
تعيينه رئيساً لحكومة عسكرية انتقالية ليلتذاك كان احد مؤشرات القوة تلك التي تحدث عنها. كذلك اسقاطه في 13 تشرين الاول 1990، كان يحتاج الى مؤشرات القوة.
تلك المرحلة التي سبقت اول شغور للرئاسة يدركه لبنان منذ استقلاله، اعدّ لها عون بفكرة غير مسبوقة هي ان «الجيش هو الحل». كتاب اصدره قبل شهر من ولادة الحكومة العسكرية الانتقالية العميد فؤاد عون في آب 1988، ثم اضحى في الظاهر قاعدة حكم «الجنرال». لم تعنِ الفكرة سوى انه يريد ان يحكم بقبضة جيش في واقع الامر سقط قبل وقت طويل في قبضة السياسيين. لم تنقضِ ايام على ترؤسه الحكومة العسكرية حتى اضحى الجيش جيشين، والويته مشتتة على المناطق، وحكومة عون احدى حكومتين متناحرتين.
مع ذلك، لم يكن في امكانه ابصار الجمهورية في ذلك الحين الا من بضعة افكار الكتاب. بيد ان الكلفة باهظة احتاج معها انضاج التجربة الى هزيمة موجعة و14 عاماً في المنفى (1991 ــــ 2005)، كي يعود عون مجدداً الى الهدف نفسه من باب مختلف تماماً، هو التجربة السياسية التي لم يوحِ مرة من قبل بأنه يثق بها، ولم يعنِ رفضه تسوية الطائف عام 1989 سوى انها وضعت بين ايدي سلطة لا يأتمنها. في ما بعد اضحى في قلب الطبقة السياسية، وفي صلب اتفاق الطائف، كي يمسي مرة اخرى امام الهدف نفسه عام 2008، وهو الوصول الى قصر بعبدا. تطلّب الامر ايضاً مزيداً من الوقت كي يصنع معادلة لا يستغنى عنها.
ليست البزّة فحسب تغيرت ما بين عامي 1988 و2005، ثم على نحو اكثر وضوحاً بعد تسوية الدوحة عام 2008، بل الرجل كذلك عندما انتبه الى ما حجبته عنه تجربة الجيش، وهو ان موازين القوى ــــ لا الدستور ولا الصلاحيات ولا القوانين ــــ تدير النظام. في سبيل ذلك صنع معادلته. لم يحظَ من قبل على مرّ عقود الاستقلال زعيم مسيحي بكتلة نيابية كالتي خبرها في انتخابات 2005 و2009، وان يمسي مفتاح تأليف الحكومات وتعثرها الى حد اعلان حكومة الرئيس سعد الحريري عام 2009 من الرابية، وكذلك اسقاطها منها عام 2011، ويحوز لوحده ثلث حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011، وان توصد الطريق الى انتخاب رئيس للجمهورية ما لم يسلّم بانتخاب سواه شأن عام 2008. بل ان يقول في الاستحقاق الحالي انه مستعد كي يستشهد من اجله.
مغزى العبارة تلك بسيط مقدار ما هو شائك ومنهك: اما عون مرشح اذ ذاك لا رئيس، او هو رئيس اذ ذاك لا مرشحين آخرين. بالوصول الى جلسة اليوم بأوراق بيض محتشمة للدلالة على الاعتراض، يتأكد الجميع ان المرشح واحد فقط لأن الرئيس واحد فقط.
على ابواب استحقاق 2014، كان عون قد استنفد كل ما كان يسعه ان يقدمه حتى هذا الوقت. مذ ذاك قرر ان يأخذ. ان يعود هذه المرة الى الباب الذي طرقه للمرة الاولى قبل 28 عاماً، ومكث وراءه، في قصر بعبدا، 13 شهراً.
تجعل المفارقة عون الرجل الذي طارده عهدا الرئيسين الياس هراوي واميل لحود، وتواطأت على إبعاده والاصرار على ايصاد الابواب دون عودته الحكومات المتعاقبة كلها، برؤسائها ووزرائها بلا استثناء، تارة بتهمة التمرد على الشرعية، وطوراً بالاختلاس والسطو على اموال عامة وملاحقته امام المجلس العدلي، وثالثة بتحريكه الشارع. امسى اخيراً حاجة حتمية للاستقرار.
ليس وحده الذي تغيّر الآن، بل كل الذين من حوله، خصوماً واعداء وحلفاء، تبدلوا مثله. وربما اكثر منه.