يمكن اعتبار إنجاز التسوية الحكومية إخراجاً إيرانياً لترتيب الساحة اللبنانية بعد ترتيب البيت العراقي، بمباركة أميركية، أو على الأقل بغض نظر واضح. لكن السؤال: هل الهدف هو التهدئة قبل العاصفة، أم أنها رسائل مشفّرة لسحب فتيل التفجير الإقليمي
إذا كان قرار الربع الساعة الأخير لتشكيل الحكومات في لبنان أصبح أمراً شائعاً، منذ عام 2005 وحتى اليوم، إلا أنه في كل مرة يأخذ التأليف أسلوباً مختلفاً، وإن كان الجوهر يبقى نفسه.
منذ أن أصبح العامل الإيراني تدريجاً عنصراً فاعلاً في الساحة اللبنانية، بعد خروج الجيش السوري، ودخول العنصر السعودي بتأثير مباشر الى جانب القوى الحليفة له، اعتاد لبنان خروج تشكيلات حكومية وإخراج تسويات رئاسية، بما يفترض توازناً بالحد الأدنى المطلوب. وحدها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي شذت عن القاعدة، لتصبح أكثر تعبيراً عن مظاهر الخلل في التوازنات الإقليمية والدولية.
وإذا كانت التسوية الرئاسية مع حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى في ظل رئاسة العماد ميشال عون، عبّرت عن ميزان دقيق بين السعودية وإيران وحلفائهما، إلا أن إنتاج حكومة الحريري الثانية، لا يبدو ذاهباً في هذا الاتجاه. فمنذ أن حاولت السعودية العودة الى بيروت، بعد انتخاب الرئيس ميشال عون، وثمة عثرات متتالية في الطريق، قبل استدعاء الحريري واستقالته، وقبل الانتخابات النيابية وبعدها. وظلت المحاولات لتثبيت توازن واضح من دون أي التباسات، تواجه بخطوات مدروسة من جانب حلفاء إيران في لبنان.
إزاء ذلك، يصبح مسار التأليف الحالي مساراً تقليدياً، في تسلسل الأحداث الإقليمية، وفي الخطوات التي ترسمها إيران في المنطقة. فإذا كانت الانتخابات النيابية العراقية واللبنانية، قد تقاطعتا، بتزامنهما الوقتي، وانعكاس نتائجهما محلياً، فإن مسار تأليف الحكومة في بيروت وبغداد اتخذ أيضاً شكلاً مشابهاً. أهمية العراق ولبنان، أن إيران تلعب منفردة في محورها فيهما، من دون أي شريك. على خلاف ما هو الأمر في سوريا، حيث يتقدم النفوذ الروسي، ويصبح شريكاً فاعلاً ومضارباً في اتخاذ القرارات ورسم سيناريوات الحرب والسلم على السواء. ما حصل في العراق، من تسوية حول الحكومة وتقاسم النفوذ والسلطات، كان بمثابة مقدمة لما سيجري في لبنان.
فمنذ أن انحسر غبار معركة إدلب التي كان انتظارها هباء، انصرفت إيران الى العراق ولبنان، لتسوية أوضاعهما بما يجعل الساحتين محصنتين، إزاء ما تقبل عليه المنطقة. وفيما نضجت تسوية العراق تدريجاً، رئاسياً وحكومياً، وخلصت الى الصيغة الحالية بتكليف عادل عبد الهادي، «الصديق» لواشنطن ولإيران معا، فإن الواقع اللبناني كان أكثر وضوحاً منذ اللحظة الأولى، بتكليف الحريري مجدداً رئاسة الحكومة، ليصبح التهويل بسحب التكليف منه، بعد مفاوضات متعثرة، مجرد شد حبال، لأن المظلة الدولية لا تزال فوقه. وهذا غطاء لم يزعج إيران، ولا حزب الله بطبيعة الحال، لأنه تحول في الوقت الضائع ضرورة لاستقرار مطلوب في زمن العقوبات أو التسويات. وحين أصبح الوقت مناسباً لإخراج التسوية، انتظم الجميع فيها، وأولهم رئيس الحكومة.
من هنا، تكمن النقطة المحورية في ما يجري، بحسب تقييم سياسيين لبنانيين، في المنحى الإيراني لترتيب الساحتين بتهدئة واضحة، فلا تذهب إيران، رغم مواعيد العقوبات والتحديات التي تفرضها واشنطن، الى مواجهة مع الولايات المتحدة. حتى إن ثمة أسئلة مبهمة حول الرسائل المبطنة والمشفرة بين طهران وواشنطن، والمصالح المتبادلة، في سحب فتيل أي توتر عراقي أو لبناني. من دون أن يعني ذلك التسرع في استخلاص نتائج مبكرة حول السلوك الأميركي تجاه إيران وحزب الله، والاستمرار في سياسة تضييق الخناق، وقد شهدنا قبل أيام تصنيف حزب الله كأحد التنظيمات الإجرامية العابرة للحدود بحسب تصنيف وزارة العدل الأميركية، واستمرار التهديدات المباشرة ضد طهران. لكن ذلك لا يمنع أن ترتيب أوضاع العراق ولبنان حكومياً، أخذ في الاعتبار بعضاً مهماً من مصالح الطرفين. أما سوريا، فلها منطق مختلف، نتيجة تداخل أدوار أخرى فيها ولا سيما روسيا وتركيا.
المرحلة المقبلة محك حقيقي لمسار إيراني أميركي من دون قفازات
من هنا، تصبح حكومة الحريري الثانية حاجة ملحة لاستقرار الوضع الداخلي ولإقفال منافذ التوتر الإقليمي، فتكون معبراً لتقاطعات إيرانية أميركية في اللحظة المؤاتية. لا يمكن وفق ذلك إهمال أي دور أميركي، في إمرار تسوية حكومية، بعد الرئاسية، ولا سيما في المرحلة التي يغيب فيها العامل السعودي المؤثر عادة في مفاوضات من هذا النوع. انشغال الرياض بأزمتها الدولية، يتقدم حالياً على أي انشغالات أخرى، وخصوصاً أن جانباً من إدارتها المعنية بلبنان مطمئن الى أن حكومة الحريري مهما كانت خلفية إخراجها بسرعة، ستكون مضبوطة الإيقاع سعودياً، ولن يكون الحريري وفريقه السياسي بعيداً عن تحقيق مصالحها. من هنا، تصبح النصائح الفرنسية والمباركة أميركياً (من دون أي التباس) جزءاً لا يتجزأ من مشهد إقليمي راغب في استكشاف قدرة الأطراف المعنيين على أن يدخل لبنان كما العراق، مرحلة تهدئة وتقاطع مصالح، قبل الاستحقاقات الدولية. وبذلك تصبح الحكومة أول العنقود وليس آخره. لأن المرحلة المقبلة محك حقيقي لمسار إيراني أميركي من دون قفازات، ولبنان، كما العراق أرض خصبة قادرة على استيعاب كل أنواع الحروب والتسويات مهما كان شكلها غريباً.