IMLebanon

من بيروت إلى… حيفا؟!

يروي مرجع نيابي سابق حادثة لافتة، جرت في النصف الأول من التسعينيات. ذات يوم من ذلك الزمن، وسط ضغوط أزمة السير الخانقة على طريق بيروت ــــ البقاع، تقدّم بعض النواب في المجلس النيابي اللبناني باقتراح قانون يقضي بإنشاء ما عرف لاحقاً باسم «الأوتوستراد العربي»، بحيث تكون طريق دولية عريضة سريعة، تبدأ من مرفأ بيروت وتنتهي عند أبواب دمشق.

بين مسارعة النواب إلى تأييد الاقتراح، ومزايدة مراجع لبنانية أخرى بمحاولة تحميل المشروع إضافات ملحقة، من نوع أوتوستراد إلى طرابلس وآخر إلى الجنوب، يتلقى المرجع نفسه اتصالاً، يعقبه لقاء مع سفير دولة غربية عظمى. جاء السفير، هامساً بداية أنه من محبي لبنان، وأنه بمعزل عن واجبه الدبلوماسي واعتبارات سياسات دولته، حريص على مصلحة هذا البلد وازدهاره. مقدمة طويلة تمهيدية، قبل أن يطرح السفير على المسؤول اللبناني سؤاله الجوهري: هل أنتم جادّون في إنشاء طريق سريع يربط مرفأ بيروت بالداخل العربي عبر دمشق؟ أجاب مضيفه بالتأكيد والجزم القاطع. ما جعل الدبلوماسي الحريص يردف: إذن، أسرعوا في إنجازه. لن يكون أمامكم كل الوقت لذلك. ثمة فرصة محدودة في الزمن متاحة لكم لتنفيذ مشروع كهذا. بعدها، لن تكون الظروف المحيطة بكم ملائمة لتحقيق الأمر.

بعد فترة جاء اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين في أيلول 1993، تبعه اتفاق وادي عربة مع الأردن في تشرين الأول 1994، لتكرّ سبحة المصالحات المعلنة أو السرية، بين أنظمة عربية والكيان الصهيوني. في غمرة تلك التطورات، أطلّ الخبر الذي أعاد تذكير المرجع النيابي بتحذير السفير الغربي: مسؤولون اسرائيليون في المغرب، يشاركون في مؤتمرات تنموية حول مستقبل المنطقة. عشرات الخبراء الصهاينة يحملون إلى المغرب العربي خرائط وتصورات ودراسات وأبحاثاً وأرقاماً. بينها مشروع هو الأساس: جعل مرفأ حيفا بوابة المنطقة الاقتصادية، في ما كان يومها حلم الشرق الأوسط الجديد.

عشرون عاماً مضت على تلك الحادثة. عشرون عاماً تخللها بعد نصفها اجتياح العراق، وسقوط بغداد وخرابها. ومن ثم البدء في إعادة إعمار البلد المحتل. مئات المليارات أنفقت هناك. بين تمويل الحرب، ومن ثم إزالة نتائجها. مئات المليارات، تركت أثرها الإيجابي الواضح على اقتصاد لبنان، مرفأ ومرافق ورجال أعمال لبنانيين. عشرات أصحاب الملايين الجدد، وبعضهم من أصحاب المليارات من اللبنانيين، ولدوا من مرحلة ما بعد حرب العراق. فضلاً عن حركة بيروتية واضحة، تظهرها أرقام مرفأ العاصمة كافة.

لم تكد حرب العراق تمضي، حتى جاءت حرب سوريا. كانت البداية وهماً من نوع انتظار أيام أو أسابيع قبل أن يسقط الحكم ويأتي البديل. وهم انتهى إلى أربعة أعوام من الدماء النازفة والدمار الشامل. أربعة أعوام تبدو مفتوحة على زمن طويل، لكنها محكومة بحل ما. حل سيقضي طبعاً بإعادة إعمار سوريا. حل بدأ المعنيون إقليمياً ودولياً يتحدثون عن دراساته الأولية. حتى أن الأمم المتحدة بدأت تقارب مشاريع الإعمار في دمشق. وحتى أن نقاشاً بدأ في قلب العاصمة السورية حول الخيارات الاجتماعية والاقتصادية لمفاهيم إعادة الإعمار. أي مخططات توجيهية لسوريا الجديدة؟ أي بنيان عمراني لأي وظيفة سوسيولوجية؟ أي دور اقتصادي وأي طرق مواصلات ولأي اقتصاد؟ مسائل تحتمل السجال والتباين والصراع، خصوصاً أن المسألة تعني أرقاماً أولية من حجم 300 مليار دولار على الأقل. بعض الدراسات يقول أكثر بكثير، والعارفون يقولون إن أي رقم يظل مستحيلاً قبل أن تضع الحرب السورية أوزارها، ويتضح حجم الدمار ويتأكد توقيت البدء بإعادة الإعمار وبالتالي كلفته في موعده لا قبل ولا بعد.

في هذا الوقت بالذات، أطل مشروع إلغاء مرفأ بيروت تدريجياً. الحوض الخامس طار. الحوض الرابع على الطريق. وعلى الخرائط الرسمية المسرّبة، خط واضح يؤشر إلى نية تطيير الحوض الثالث مستقبلاً. يتحول مرفأ بيروت إلى محطة حاويات. ببدل إيجار مذهل، دولار ونصف للمستوعب الواحد يومياً. فيما بدل موقف ميني سيارة في بيروت أكثر من 3 دولارات مقابل ساعة واحدة! محطة حاويات لا غير، لا تستفيد منها الخزينة العامة بفلس، كما حصل في العامين الماضيين. فيما تذهب عائداتها إلى شركة تشغيل خاصة، لا يجرؤ مسؤول في البلد على تسمية أصحابها الحقيقيين ولا مساهميها المستورين. محطة حاويات، أخطر ما فيها، أن لا علاقة لها ولا دور ولا وظيفة في مرحلة ما بعد حرب سوريا. عندها تنتقل اللحظة الاقتصادية إلى مكان آخر، وتنتقل الفرص إلى بلدان أخرى، مع انتقال بواخر «الدوكما» إليها.

إلغاء مرفأ بيروت تدريجياً، مسألة قد تكون موضع بحث ونقاش هادئ، لكن شفاف، في الجدوى والتوقيت والأهداف. لكن الأكيد أنها لا تبدأ بجريمتين اثنتين: أولاً بأن يحل موظفان، واحد من لجنة موقتة اسمه حسن قريطم، وثان في موقع غير قانوني اسمه سهيل بوجي، محل مجلس الوزراء والسلطة التنفيذية. وثانياً بأن يعطى التزام هائل بالتراضي، خلافاً للقانون. بعدها تبقى المسألة الأخطر في النقاش، هل ننقل مرفأ بيروت إلى منطقة لبنانية أخرى، أم إلى اسرائيل؟