IMLebanon

من الفوضى الخلّاقة إلى «المذابح الخنّاقة»

 

إنها حرب عالمية حقيقية تنفتح فيها جميع الجبهات دفعة واحدة لتصب في ساحات الوغى العربية المفتعلة والمهيأ لها منذ السياسات الأولى لوزير الخارجية الأميركي السابق كيسنجر ولواحقه من المسؤولين الأميركيين أصحاب نظرية الفوضى الخلّاقة، بعد أن بُلْوِرَت وطُوِّرت إلى حدّ لم تعد تسمى بالفوضى الخلاقة بقدر ما أصبحت تسميتها واقعا وفعلا، «المذابح الخنّاقة» المتمثلة بعمليات إبادة جماعية للشعب السوري أفلحت حتى الآن في قتل مجموعات كبيرة من سكانه، وتهجير من نجا منهم إلى بلاد الله الواسعة، وهل أوسع مدى وأكثر ملاءمة للإحتواء الغزير، من البلدان العربية المجاورة، ومن بينها لبنان. ويذكر اللبنانيون «بالخير» بعض المبادرات الأوروبية لمنع الإختناق السكاني والإقتصادي والأمني عن لبنان، حتى إذا ما أمعنوا التدقيق في هذه «النخوة» المشكورة، تبين لهم أنها ما هي إلاّ وسيلة للدفاع عن النفس وعن الأمن الغربي، وعن تمادي عمليات النزوح إلى الداخل الأوروبي، بعضها سعيا إلى الهروب من عمليات القتل والموت التي تلاحقهم في بلادهم المنكوبة وبعضها الآخر، تلطيا بأولئك الساعين إلى الهروب بأرواحهم وأرواح عائلاتهم إلى ضبابيات الأمن والنجاة من عمليات الإبادة الجماعية، لممارسة أعمال الإرهاب التي تطوّرت أساليبها واستهدافاتها إلى حدّ بعيد.

ولا ينفك الهجوم على منطقتنا وعلى دولنا وعلى شعوبنا وعلى قيمنا ومقدساتنا، يبرز بمظاهره الوقحة الجديدة مع مطلع كل شمس، وأهم ما يراد منه، ذو أبعاد رباعية، تتمثل بكلٍّ من البعد الأميركي والروسي والإيراني، فضلا عن البعد الجليّ-الخفيّ، المتمثل دائما وأبدا بإسرائيل، وهي البعد الثابت والأكيد الذي يصطادنا أرضا بعد أرض وحقلا بعد حقل، وميدانا إثر ميدان.

بدأت الأمور من الولايات المتحدة، بهجمة فجائية تمثلت بعودتها عن انكفائها عن المنطقة عموما وعن الإهتمام بالوضع السوري المتدهور خصوصا، بعد أن قررت إدارة ترامب الجديدة أن تحيي في رؤوس زعمائها، أسلوب الهجوم والإفتراس واقتطاع ما أمكنها من الأراضي والمواقع شرق الأوسطية ذات الوضع السائب، فإذا بترامب يقفز بخطوات سريعة ومفاجئة إلى أماكن اختارها بعناية تحفظ له حصته من الكعكة الدسمة من المواقع السورية التي تحتضن في أرضها جملة من الثروات، وخاصة منها الغاز والنفط، وخاصة كذلك، المواقع الاستراتيجية التي يمكنها من خلال التحكم بعملية الإنطلاق والتموقع في منطقة حافلة بالأماكن ذات الطابع الإستراتيجي الهام الذي من خلاله يمكن تأمين القواعد الصلبة للمصالح الأميركية، وفي طريقها، إلى مثل هذا التأمين لا شك أن الولايات المتحدة تؤمن أيضا المصالح والمواقع الإسرائيلية القادرة على حماية إسرائيل من «أخطار المنطقة المحيطة»، وفي الوقت نفسه، تكون منطلقا وموقعا مساعدا لحماية المصالح والمطامع الأميركية، القديم منها والجديد.

وها هي إسرائيل تبدأ باستثمار وجود ترامب في السلطة الأميركية لتنهمر علينا من خلاله جملة من الهجمات المفاجئة والمباغتة وفي طليعتها قرار ترامب بنقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس وبعد أن سبق له أن أعلن بأن هذا النقل سيتم بعد عام أو عامين، إذا به يفاجئنا مجددا بتقديم موعد الإنتقال إلى شهر آذار المقبل، ويا «للمصادفة «الغريبة»! إنه هو نفسه الموعد الذي تم فيه خلق دولة إسرائيل واستهدافه بنكبة مستمرة للعالم العربي عموما وللشعب الفلسطيني خصوصا، وعيون ترامب ما زالت محمرّة على عالمنا وعلى مصالحنا وعلى ثرواتنا وعلى ترسيخ وتوسيع الوجود الإسرائيلي في أرضنا، ولن نظلمه في هذا السياق أكثر من اللازم، خاصة وأنه طلع علينا طامح وطامع جديد، متمثل في روسيا التي غطست في أوحال المنطقة تدريجيا من خلال الغزو المباشر المتسلح والمتلطي بالنظام السوري الذي كان على أهبة الزوال، فإذا بصفقات روسية متتالية، تعقد مع ذلك النظام، واذا بروسيا تتحول من خلال مزاعم وتصرفات مصطنعة ومختلقة، إلى وحش كاسر يقاتل الشعب السوري أطفالا ونساء وعجزة، ويدمر مناطق ومدناً وقرى بكل عمرانها ويستعمل الفيتوات لدى مجلس الأمن (11 فيتو) لمنع أي ردع لأعمال القتل والتدمير الممنهج التي يعاونه من خلالها جملة من المقاتلين الأجانب المستقدمين للقيام بكل ما لهذا الدور الإجرامي الذي تقوم به القوات الروسية، حتى إذا ما تحقق كثير من الضغوط على الرئيس بوتين وعمد بعد مناورات ومحاولات تحوير وتنصل وفركشة للجهود التي قام بها مجلس الأمن مؤخرا بمبادرة من السويد والكويت وأدت إلى اتخاذ قرار ذي طابع إنساني بوقف إطلاق النار لمدة شهر في مجمل الأراضي السورية، عادت حليمة إلى عادتها القديمة، جهة تشدّ وجهةُ ترخي، فتستمر عملية الضحك على ذقوننا جميعا من قبل المستعمر الروسي الجديد، والمجازر على مجمل الاراضي السورية مضيفا إلى الجحيم القائم مزيدا من استعمال المواد الكيمائية التي تطاول أول ما تطاول، أرواح الأطفال والضعفاء من أهل الغوطة خاصة، وسوريا عامة، وتلحس روسيا قرارها بالموافقة على قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار لمدة شهر، وتجابه المجتمع الدولي كله بتشريع على ذوقها يبقي النار مفتوحة فوق رؤوس من تشاء وتبقيه في واقع الأمر مفتوحا وملتهبا وقاتلا فوق رؤوس الشعب السوري المنكوب، ولعل ما قاله قداسة البابا في تعليقه الأخير على الوضع المأساوي والمحتوي على كثير من النبض الإنساني الجريح، الذي ينتفض ضد الظلم والقهر والقتل والطغيان، معتبرا أن الشهر الجاري كان الشهر الأكثر عنفا من النزاع، ناطقا بتعابير ومواقف تدفع بنا إلى التساؤل عن هذا الصمت والتخاذل القاتل الذي يمارسه «باباواتنا المحليون» في هذه المنطقة المنكوبة، فضلا عن صمت آخر يمارسه باباوات المجتمع الدولي كله، وفي طليعة الصامتين في هذه الأيام، صمت الولايات المتحدة عن المجازر بحق السوريين، وفعلها المدوي بصدد قرار نقل سفارتها إلى القدس.