قرار توقيف أمير «داعش» عماد ياسين في مخيّم عين الحلوة، هو أكثر من إجراء تكتيكي داخل قصّة الحرب على الإرهاب في لبنان؛ كما أنّ تنفيذه يؤشّر إلى أنّ لبنان دخلَ صلبَ الحرب العالمية على الإرهاب في المنطقة.
ما حدثَ في عين الحلوة يوم الخميس الماضي، كان جزءاً من مشهد له مقدماته داخل لبنان وخارجه، كما ستكون له تتمّاته على مجمل موقع لبنان داخل مسار الحرب الدولية الدائرة ضد «داعش» وشقيقاتها الجهادية العالمية المستوطنة في المشرق العربي ودول أخرى في المنطقة.
وتقوم هذه الحرب التي باتت معتمدة دولياً منذ تفاهمِ واشنطن وموسكو على هدنة شباط الماضي في سوريا، على استراتيجية من مرحلتين كان يؤمل تعميمُها على كلّ الساحات الساخنة ضد الارهاب في الشرق الاوسط، لولا الانتكاسة الاخيرة التي مُني بها تفاهم كيري – لافروف.
تشتمل المرحلة الاولى على السعي إلى «فرز» الساحة الجهادية الاسلامية بين فصائل «عالمية» يجب استئصالها، وأخرى لها «خصوصيات محلية» يمكن احتواؤها، توصّلاً إلى المرحلة الثانية الهادفة لـ«عزل» «داعش» و«النصرة» وامتداداتهما في أضيق بيئة تحالفٍ عسكري وعقائدي وجغرافي، ما يزيد من سهولة ضربِهما.
في سوريا، تَفاوضَ الاميركيون والروس لأشهُر لوضعِ هذه الاستراتيجية موضعَ التنفيذ، لكنّهما أخفَقا في الاتفاق على تطبيقات شقُّها الاوّل المتعلق بإنشاء مسار لـ«الفرز» بين «داعش» والفصائل الجهادية الأخرى، وتجسَّد فشلهما هذا بعدم الاتّفاق على لائحة موحّدة يدرجون عليها الفصائل الإسلامية العسكرية المجاهدة العالمية التي يجب ضربُها، وتلك التي يمكن احتواؤها ضمن عملية الهدنة والحلّ السياسي في سوريا. ووقع الخلاف بينهما على تصنيف فصائل عدة، أبرزُها «أحرار الشام» و»جيش الإسلام» و»النصرة».
ومنذ شباط الماضي، أنشِئت في قاعدة حميميم غرفة عمليات لم يكن الاميركيون بعيدين عنها، لفرز فصائل البيئة الجهادية ضمن إطار فاعليات هدنة شباط الماضي، وكان يؤمل أن تُستكمل في إطار هدنة هذا الشهر التي تعرّضت للانهيار.
وهدفُ غرفة حميميم عرضُ التزام الهدنة على كلّ فصائل المعارضة الإسلامية المسلحة، عدا «داعش» و«النصرة»، وكلّ فصيل يقبل بها يُدرج على أنه ضمن قائمة الاحتواء، والعكس صحيح.
وكان الهدف النهائي الذي انقطع مسارُه الآن، بفِعل انهيار اتفاق كيري – لافروف، يقوم على تطبيق استراتيجية «الفرز» فوق ساحة الفصائل الجهادية في سوريا بين «الجهاديين العالميين»، وجهاديين لهم خصوصيات محلية يمكن احتواؤهم، توصّلاً إلى «عزل» «النصرة» و«داعش» ومن يُشبههما في أضيقِ تحالف ممكن فوق الساحة الجهادية، وداخل أصغر مساحة جغرافية ممكنة، تمهيداً لجعل ضربهما عسكرياً أكثر سهولة.
وفيما تطبيقات استراتيجية «الفرز والعزل» في سوريا تواجه حاليّاً تحدّيات تعاظم الخلاف الاميركي الروسي، وانهيار الهدنات المتتالية التي تشكّل وعاءَ تطبيق نظرية الفرز، فإنّ الجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية نجَحت على نحوٍ لافت في وضعِ تطبيقات هذه الاستراتيجية داخل «عين الحلوة» على سكّة العمل الفعّال.
وتكشف التفاصيل أنّ اليرزة اتّبَعت منذ أشهر سياسة جديدة في «عين الحلوة»، دفَنت بموجبها استراتيجية سابقة كان لها في حينها مبرّراتُها السياسية والموضوعية، وكان هدفها الرئيس منع الانفجار في المخيّم من خلال تشجيع إنشاء «معادلة توازن رعب» بين فصائله الإسلامية وفصائله الوطنية، لجعلِ كلّ طرف منهما يتجنّب الدخول في صراع مسلّح ضد الآخر. فيما تؤدي عصبة الانصار – كبرى الفصائل الاسلامية في المخيم- عبر التزامها الحيادَ بين الطرفين، دورَ الضامن لنجاح هذه المعادلة.
أمّا السياسة الجديدة لليرزة فذهبَت منذ اشهر لاستبدال «استراتيجية توازن الرعب» في المخيم التي كان هدفها الأساس تجميد الوضع فيه عند حدود بقاء الاستقرار النسبي فيه قائماً، بانتهاج تطبيقات «استراتيجية الفرز والعزل» داخل الساحة الاسلامية الجهادية في «عين الحلوة»، وذلك بمواجهة خطر بدء تعاظم وجود «داعش» خصوصاً، وتالياً «النصرة»، داخله، وظهور ملامح تؤشّر الى أنّ «توازن الرعب» بين فصائله التكفيرية الجهادية وفصائله الوطنية، بدأ يختلّ لمصلحة الأولى.
في مرحلة تطبيق الشقّ الأوّل من هذه الاستراتيجية المتعلقة بـ«الفرز»، نجحت مخابرات الجيش في إنشاء قواعد لعبة جديدة مع المجموعات التكفيرية، تقوم على مبدأ إظهار «الحزم» من جهة والانفتاح من جهة ثانية على «تسويات هدنة» مع كلّ طرف أو عنصر جهادي غير مرتكب للجرائم. وتمّ، ضمن هذا التوجّه، تشجيع عناصر من الصفّ الثاني والثالث وحتى أدنى مستوى في المجموعات التكفيرية المسلّحة، على تسليم أنفسهم إلى القضاء اللبناني لتسوية مخالفات ارتكبوها، شرط أن تكون دون مستوى عمليات قتل.
وخلال هذه العملية التي أسفرَت عن تسليم العشرات من عناصر هذه المجموعات أنفسهم إلى الدولة اللبنانية، ظهر نقاش أمنيّ بين نظريتين متباينتين؛ الأولى تحفّظت على هذا الأسلوب وتساءلت عن أهمّيته الامنية، كون الذين يسلّمون أنفسَهم ليسوا فعّالين داخل بيئة إرهاب «عين الحلوة»؛ وجميعُهم من أصحاب الارتكابات البسيطة، كإطلاق النار في مناسبات، أو اعتداءات جنائية عادية، أو مجرّد الانتماء إلى مجموعات جهادية من دون أن تكون لهم داخلها أيّ قيمة تنظيمية.
أمّا الرأي الثاني الذي يقع مضمونه داخل صلب تطبيق استراتيجية «الفرز والعزل» ضد «داعش» و«النصرة»، فرأى أنّ أهمّية هذه الخطوة تتمثل في أنّها تؤدي الى تناقصِ أعداد مسلّحي المجموعات التكفيرية في المخيّم، ما يَجعل جسَدهم التنظيمي ضئيلاً، وهذا بدوره سيقدّم عنهم رسالة ضعف إلى الجهات التي تموّلهم وتحرّكهم في الخارج، سواء في الرقة أو في دول أخرى.
بمعنى آخر، بيّن هذا الرأي أنّ لهذا الإجراء نتائج نفسية على معنويات حالة «داعش» في المخيّم، كما أنّه سيخلق حالة يأس منها لدى الجهات الخارجية التي تقف وراءَها. أضِف إلى أنّ هذه الخطوة ستغري أطرافاً جهادية أخرى، مترددة بالتحاقها بـ»داعش» لأسباب مختلفة، لتفكّ ارتباطها بها.
في المحصّلة، إنّ هذه المبادرة تخدم أمرَين:
١- تطبيق «نظرية الفرز» داخل مجمل بيئة إسلاميّي «عين الحلوة» بين «داعش» و«النصرة» من جهة وبقيّة الجهاديين من جهة ثانية؛
٢- قطعُ الطريق على تعاظم مناخ «داعش» في المخيّم، وذلك عبر إظهار حضور قوي لمناخ الدولة اللبنانية فيه، وكانت عمليات تسليم عشرات المنتمين لفصائل جهادية أنفسَهم إلى الدولة، قد أدّت هذا المعنى.
وتَحول أسباب أمنية دون العرض لتفاصيل التطبيقات التي مارسَتها مديرية مخابرات الجيش اللبناني على صعيد «الفرز» داخل المخيّم خلال الأشهر الماضية، والتي نجَحت في عزل مسار تمدّد «داعش» و«النصرة» فيه ضمن أضيق حدود.
ولكن يمكن الاستدلال على بعضها من خلال النتائج العملية التي أدّت إليها. فيلاحظ مثلاً أنّه عقبَ توقيف أمير «داعش»، اقتصر ردّ الفعل الاحتجاجي على عناصر التنظيم فقط، الذين نزلوا إلى شوارع حيَّي التعمير والطوارئ للقيام باستعراض عسكري لقوّتِهم.
فيما معظم المجموعات الجهادية الموجودة في هذين الحيَّين، والمنضوية منذ أعوام ضمن إطار «الشباب المسلم» الذي تمّ حلّه أخيراً بأمر من أميره أسامة الشهابي، استنكفَت عن إبداء أيّ ردّ فِعل، والتزمت نوعاً من الحياد إزاء بدء الصراع الامني بين «داعش» والجيش اللبناني داخل المخيّم.
وتشي هذه الملاحظة بأنّ نظرية «الفرز» الممارسة منذ أشهر، من قبَل الجيش داخل بيئة الفصائل الجهادية في «عين الحلوة»، أتت أكلها. وهنا يَجدر إدراج ملاحظة استداركية تكمِل الفكرة الآنفة، وتقع في أنّ انتقاء هدف أمير «داعش» (عماد ياسين) حصراً، لتوقيفه، يعطي إشارةً إلى أنّ العملية تأتي كترجمة للهدف المنشود من وراء تطبيقات ما سبَقها من عمليات لـ«الفرز» بين «داعش» وبقية المجموعات الجهادية في المخيم، توصّلاً إلى تحييد الأخيرة وبدء حصار «داعش» داخل «عين الحلوة» كمقدّمة لتفكيكها وضربها في لحظة إتمام عزلتها داخله.
مجمل المؤشّرات الآنفة توحي بأنّ عملية توقيف أمير «داعش» في عين الحلوة، تنهي مرحلة «الضربات الاستنسابية» ضدّ الإرهاب أو «الاستباقية» الهادفة حصراً لتأمين «دفاع سلبي» (أي منع حصول عمليات إرهابية)، لتبدأ مرحلة توجيه سياق من العمليات النوعية التي توجّهها خطة أو استراتيجية (استراتيجية الفرز والعزل) ممنهجة لديها أهداف متتالية تنتهي بعزل «داعش» في المخيم، ما يُسهّل تفكيكها وضربها، ويخدم بالتالي أهدافاً استراتيجية للأمن اللبناني والفلسطيني قوامُها إنقاذ «عين الحلوة» من الانزلاق إلى وضع يُكرّر فيه ما حدث في مخيّمي «نهر البارد» في طرابلس و«اليرموك» في دمشق. وفي الأساس إنقاذ البلد من فتنة مذهبية تنطلق شرارتُها من أحداث دامية تَحدثُ بين المخيّم ومحيطه اللبناني.
وعلى مستوى الهدف الأخير، تؤكّد مصادر مطّلعة أنّه بنتيجة تحليل التحقيقات التي جرت مع معظم المجموعات التكفيرية التي فكّكتها الأجهزة الامنية اللبنانية، تبيّنَ أنّ الهدف الاستراتيجي الذي يربط بين كلّ فعالياتها، يتمثّل في دفعِ مناخ البلد للانزلاق نحو نشوبِ فتنة شيعية – سنّية، وضمن الخطط الموضوعة لتنفيذ هذا الهدف دورٌ أساس لمخيّم عين الحلوة. وقبل أعوام كان الرئيس نبيه برّي وصَله تحذير من زعيم دولة عربية من المهمّة الخفيّة للشيخ أحمد الأسير والهادفة إلى صدام مذهبي في لبنان.
وفي الوقت نفسه كانت محافل لبنانية ذات صلة بالوضع الأمني تحذّر من خطة لإحداث صدام ينهي المقاومتين اللبنانية (حزب الله) والفلسطينية، انطلاقاً من سيناريو ينفَّذ انطلاقاً من «عين الحلوة»، وقوامُه سيطرة مجموعات تكفيرية سَلفية على المخيّم، ومن ثمّ إحداث فتَن مذهبية بين المخيّم ومحيطه اللبناني لجهة حارة صيدا، توصّلاً إلى تعميم حالة الفتنة في غير منطقة لبنانية.
ترمي هذه الخطة إلى استبدال هوية مخيّم عين الحلوة، الذي هو عاصمة الشتات الفلسطيني، من حالة لجوء فلسطينية تنتظر حقّ العودة إلى حالة داعشية مستغرقة في الحروب المذهبية الداخلية العربية، وأيضاً إظهار مقاومة «حزب الله» على أنّها تخوض صراعاً مع مقاومة اللجوء الفلسطيني، ما يَنزع عنها صفة مقاومة.