قبل سنة تماماً، وفي مثل هذه الايام، بينما كانت اخبار المعارك القتالية الدائرة في سوريا تحتل اهم العناوين السياسية، كان ايلان الكردي، الطفل السوري الذي لم يتخط الاربع سنوات، يغرق مع عائلته في بحر ايجيه التركي بعدما ابتلعت الامواج المركب المطاطي الذي استخدموه للعبور من الاراضي السورية الى الاراضي التركية حيث لفظت الامواج جثة الطفل ليعثر عليه احد المارين. طفل صغير، مرمي على احد الشواطئ السياحية التركية الفاخرة، بقميصه الاحمر وسرواله الاسود ووجهه الملائكي وجسده الجامد. كان موت الاطفال بصيغته «الفجة» جديدا على عيون العالم، القتل الذي يطال الاطفال وبنفس اسلوب تصفية الشباب في الحروب العالمية السابقة منذ قرون.
قرر العالم يومها التضامن مع الشعب السوري، وسط تعاطف دولي يقوم على شد العصب الانساني بوجه العنصرية الاوروبية تجاه المهاجرين السوريين. وحدها صرخات الاوروبيين من موجة الهجرة غير الشرعية الى بلادهم كانت تحظى بالاهتمام الاعلامي المطلوب، وهي صرخات عليها ما يشبه الاجماع العالمي. المظلوم هو الشعب الاصلي، والظالم هو مهاجر سوري. اما صورة ايلان فافتتحت عصرا جديدا من «تلفزيون الواقع»، الذي يظهر فيه المهاجر على حقيقته المريعة وبوضوح لا لبس فيه، يجهد لمغادرة بلاده حيث القتل يطارده بكل اشكاله باحثا عن حياة آمنة من دون تشكيل اي تهديد او عبء للدول المضيفة.
امس، كانت العودة الى مربع ايلان، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، بعد تقرير اعدته «ذي اندبندنت» البريطانية عن طفل سوري نجا من قصف الطائرات الروسية في حلب، وبعدما نشرت صفحة «مركز الاعلام الحلبي« فيديو للطفل في سيارة الاسعاف، قرر المغردون الانتقام من جديد لأطفال سوريا، هم الذين تهمتهم الوحيدة انهم ما زالوا صامدين في المناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة والتي تدك يوميا بأطنان من قذائف النظام والطائرات الروسية اضافة الى محاصرتها على الارض من قبل عناصر «حزب الله« والميليشيات الداعمة للنظام البائد.
لم تظهر صور الطائرات الروسية وهي تقصف حي القاطرجي الذي تسيطر عليه المعارضة في حلب، الا ان صورة الطفل عمران دقنيش وعمره خمس سنوات، كانت هي الدليل على وحشيتها. جلس عمران مذهولا يتحسس كرسي سيارة الاسعاف التي نقل اليها، ويتحسس شعره وعينه المجروحة بيده الملطخة بالدماء، ربما ليتأكد من أنه بخير ولم يفقد اي منها. لم يفهم ما يدور من حوله، بهدوء ورصانة جلس رغم كل اوجاعه، ينظر الى المصور بعتب وكآبة، والتشوه واضح في وجهه. هل انتهى المشهد السريالي هنا؟، كلا.
عمران كان اول الاطفال الداخلين الى سيارة الاسعاف، وما هي الا ثوان حتى امتلأت السيارة بالاطفال الناجين من القصف. اختار احد المصورين الميدانيين تسليط الضوء على الطفل، رغم كل ما كان يدور حينها من حوله، تماما كما اختار احد المسعفين الاتراك منذ سنة ايصال صورة جثة ايلان الى العالم، ربما لان في الاطفال ما يفقده الكبار من زعماء العالم وسياسيين ومحاربين ومنظمات انسانية وامم متحدة، الصدق وقدرة التأثير والاقناع من دون اي مجهود. هبت وسائل الاعلام العالمية لتغطية الخبر، «ذي اندبندنت» عنونت تقريرها بـ«الصورة التي تظهر معاناة اطفال حلب»، اما موقع «دايلي مايل» فقد رأى ان الصورة صادمة وعنونها «الصورة التي صدمت العالم»، فيما نشرت قناة ABC تقريرا تحت عنوان «فيديو لطفل يظهر ان اطفال سوريا لا يزالون يدفعون الثمن»، مواقع التواصل الاجتماعي ازدحمت صفحاتها بالصورة مرفقة بتعليقات منددة بالقصف الروسي الذي ينطلق من قواعده العسكرية في ايران لاستهداف الاطفال السوريين، وبالتالي بالتدخل الايراني وميليشياته لقمع ثورة الشعب السوري عن طريق حصار الشعب وقتله بأبشع الاساليب.
لا يحتاج النظام السوري الى التأكد من صور موت الاطفال ليتنحى الاسد، ولن يرتدع «حزب الله» عن مساهماته في مشهد المجازر المستمر، ولن تلتفت إيران الا لمصالحها وتثبيت وجودها وسيطرتها في المنطقة العربية، اليوم وبينما يبكي العالم عمران يموت أطفال آخرون في سوريا.. الى متى؟!