اختُتم الاستحقاق الانتخابي “بتأوّلات” طريفة لنتائجه، القاسم المشترك لأكثرها تغييب النظرة الاجمالية العامة للمشهد البرلماني ككل، وعزل النتيجة ضمن كل طائفة عن المشهد العام، كما لو انه جرى نهار الأحد الماضي انتخاب مجموعة برلمانات متوازية. هذا “التأويل في الرقم وتوزيعاته” يعكس بحد ذاته حجم ابتعاد نظامنا السياسي عن مفهوم الديموقراطية البرلمانية المقرّ كاطار دستوري للجمهورية اللبنانية. في الديموقراطية البرلمانية الاكثرية المنبثقة عن الانتخابات تحكم والاقلية تعارض ويصار الى تداول السلطة، وصيانة الفصل بين السلطات. أما في الديموقراطية البرلمانية على الطريقة اللبنانية فالحال مغايرة تماماً، وبشكل متنامٍ عبر السنوات، وبالذات مع القانون الانتخابي الحالي الذي هو أقرب الى نظام “صوت واحد لكل ناخب” مشوهاً باللوائح – الجمعيات، الباحثة عن تأمين حاصل لمجموعة مرشحين يتناهشون هذا الحاصل في ما بينهم. هنا، يتأول كل فريق نتيجته، ويستخرج من هذه النتيجة “حقوقاً وزارية” بعدد الكراسي والمقاعد على طاولة الحكومة، ما يفتح الباب لتفاوض غير سهل ابداً بين الكتل المختلفة، وفي شروط تزيده صعوبة، خاصة مع انعدام التوازن الناتج عن تملك فريق بعينه للسلاح، والاختلاف بين كتل ناشئة عن تشكيلات سياسية مرنة، وبين كتل ناشئة عن تشكيلات سياسية حديدية، او حديدية الهوى.
ظهر مع الاستحقاق مشكل حقيقي يتصل بقانون الانتخاب. فنظام “صوت واحد لكل ناخب” حضر مشوّهاً، من خلال اسلوب الصوت التفضيلي، اما اللوائح الباحثة عن حاصل فجاءت تشويهاً لنظام التصويت النسبي الذي يحتاج الى نظام قوائم برنامجية، او نظام احزاب انتخابية، احزاب تكون الديموقراطية وتداول السلطة داخلها هي شروط لاستقامة امرها كأساس للديموقراطية الانتخابية التنافسية على الصعيد الوطني العام.
وظهر مع الاستحقاق اختلاف بين نظامين انتخابيين. احدهما الساري المفعول في مناطق سيطرة “حزب الله” حيث الانتخابات في غنى عن التنافس، فالتنافس فيها يستبدل بالتقاسم الشامل للمقاعد بين “حزب الله” وحركة “امل”، والقدرة على تزكية هذا التقاسم الثنائي، لأسباب مختلفة، ليست كلها نتيجة مركب السلاح والايديولوجيا التعبوية، بل ايضاً لعناصر ضعف جوهرية لدى المعترضين على هذه الثنائية. اما في المناطق الاخرى، فقد اختفت تماماً التزكية، “الاصيلة” انتخابياً في لبنان، وحضر التنافس، انما تنافس محكوم الى حد كبير بالامتناع عن النظر للمشهد الاجمالي العام للمجلس المرتقب، وخوض الاستحقاق كما لو كانت هناك عدة برلمانات. صحيح انه لم يقرّ قانون اللقاء الارثوذكسي كما طُرح قبل خمس سنوات، القائم على تحوّل كل طائفة لدائرة انتخابية بمفردها لجميع ناخبيها، لكن القانون الحالي، تكفل مع ذلك بتحويل ناجحي كل طائفة، انتخابياً، الى برلمان قائم بذاته. لكنه مع ذلك، وإلى حدّ كبير، مشهد مخادع. فكيفما رحت تتأول في النتائج، لا يمكن التعويض في الوهم عن سلبية عدم خوض الاستحقاق من موقع ائتلاف سياسي شامل في مواجهة ائتلاف سياسي شامل، على ما اقتربنا منه قبل تسع سنوات، وأُحبطت نتائجه ثاني يوم الاستحقاق، قبل تسع سنوات ايضاً. لعبة تحويل الانتخابات الى انتخابات لبرلمانات مختلفة بحسب الطوائف، هي الى حد كبير لعبة مؤاتية للمزيد من انعدام التوازن، فمكابر من يعتبر ان الانفصال الكبير في المشهد، بين نظام الانتخابات التنافسية هنا، وبين نظام الانتخابات التي جرى تفاديها بتقاسم المقاعد هناك، هو انفصال لا يركن اليه بعد صدور النتائج. مكابر في المقلب الآخر من يتوهم ان التناقضات القائمة في المجلس الحالي يمكن اختزالها الى تناقض واحد اساسي وتناقضات ثانوية تدور في فلكه.
لم تكد هذه الانتخابات، لبرلماناتنا الموازية، وللبرلمان الحصيلة، تنتهي، حتى عاد التسمّر على التطور الدولي المتصلّب، المتمثّل بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي للمجموعة الغربية مع ايران، من دون خطة بديلة واضحة لإعادة التفاوض، بل شروع في اعادة فرض العقوبات، واندفاعة اسرائيلية مواكبة للتصلب الاميركي، وحيرة اوروبية بإزاء ما يمكن فعله حالياً، ومناخ من الشعبوية الرسمية ايرانياً، مع ضرورة الانتظار قليلاً لاتضاح التوجه الايراني لمرحلة ما بعد عودة العقوبات، وما ينتظر من عواقب أشدّ. مناخ ضاغط على التركيبة البرلمانية الجديدة بالنتيجة. مناخ يفترض جهداً مضاعفاً لصيانة وضعية تحييدية أو نائية بنفسها للبنان، البلد الذي ترتبط فيه اكبر جماعة اهلية مسلّحة كـ “حزب الله” عضوياً وعقيدياً بنظام ولاية الفقيه والحرس الثوري.