IMLebanon

من الجهاد المتطرف إلى الجهاد المعتدل

بين التطرف والاعتدال صلة بلا وصل، صلة تؤمنها وسطية نسبية باتجاه تأجيج النزاع أو المساهمة بحله. صاحب الحق في منح الصدقية لأي من الاتجاهات الثلاثة ـ الاعتدال، التطرف والوسطية ـ هو عادة الطرف الأكثر تضرراً. في العلاقات الدولية ثمة تمييز بين القوة الناعمة (soft power) والقوة الخشنة (hard power). الديبلوماسية والمحفزات المالية والاقتصادية تدخل في خانة الناعم، بينما العمليات العسكرية والأسلحة الفتاكة خشنة وغايتها القتل.

مناسبة هذا الكلام بدعة جديدة، خارجة عن السياقات المألوفة في استعمال أدوات القوة والتأثير في نوعَيْها الناعم والخشن، مصدرها الولايات المتحدة، وهي تدريب مقاتلين «معتدلين» لمحاربة «داعش». المتعارف عليه في ساحات القتال حالات الاعتدال الظرفي للإغاثة والإسعاف في إطار عمل إنساني محايد.

أما أفواج عسكر سمتهم الاعتدال يخوضون معارك طاحنة مع محترفين في القتال الانتحاري فهي سابقة في التاريخ العسكري، في الحروب داخل الدول وفيما بينها. والسؤال، ما المقصود باعتدال فرق قتالية مهمتها القضاء على جهاديين يحاربون بهدف نصرة الدين وتطهيره من المشركين؟ اعتدال في الفكر أم اعتدال في طريقة القتل، أم اعتدال في التديّن وانضباط في السلوك، فلا إمكانية لجهاد النكاح على سبيل المثال لا الحصر.

وفي حال جنح المعتدل باتجاه التطرف، فما العمل عندئذ؟ من له الكلمة الفصل على أرض المعركة: القائد العسكري أم المعالج النفساني أم الإثنان معاً، هذا إذا حافظ القائد العسكري على اعتداله. وفي حال الهزيمة يمكن أن يتساوى الاعتدال مع التطرف، أما في حال النصر فكيف سيتم توزيع المغانم بين المعتدلين بعد التصدي للإرهاب؟

تركيا، المولجة تدريب المقاتلين «المعتدلين» دعمت في السنوات الأخيرة أكثر التنظيمات السلفية تطرفاً من جهاديي الغرب والشرق وسهلت دخولهم إلى «أرض الجهاد» في سوريا، وهي كانت مضرب مثل في الاعتدال الإسلامي. الدولة التركية علمانية، أما رئيسها رجب طيب أردوغان فيتبع سياسة إسلامية إلى أقصى حدود الممكن تحت السقف العلماني. و «الصحوات» في العراق عشائر ارتدت عباءة الاعتدال عندما تعاونت مع الجيش الأميركي للقضاء على مقاتلي «القاعدة»، وتحولت إلى التطرف بعدما دعمت «داعش»، وقد تعود إلى الاعتدال في حال تصدت لـ «داعش». ومنذ سنوات، انتقل الرئيس الليبي معمر القذافي من التطرف، بعد اتهامه بتفجير الطائرة المدنية الأميركية في 1988، إلى الاعتدال واستُقبل بحفاوة في العواصم الأوروبية التي زارها، بعدما دفع تعويضات مالية إلى أهالي ضحايا الطائرة المنكوبة 270. وفي الآونة الأخيرة انتقل «الإخوان المسلمون»، بعدما كانوا مضرب مثل في الاعتدال قبل تسلمهم الحكم في مصر، إلى التطرف بنظر الجهات نفسها التي أيدتهم في الحالتين.

تبقى الإشارة إلى أن قياس درجات الاعتدال والتطرف في صفوف المقاتلين مرتبط بمدى مناعتهم «لسحر» «داعش» وحلفائه، وهذا لا يشكل إحراجاً للأطراف المشاركة في «الجهاد المعتدل» في الجزء العراقي من الدولة الإسلامية. أما في الجزء السوري، فللمعتدلين «أجندات» مختلفة. فتركيا والسعودية وقطر لا تميز بين التطرف «الداعشي» وتطرف النظام السوري، بينما واشنطن لا تريد الدخول في مواجهة عسكرية مع الجيش السوري، أقله في المرحلة الحاضرة. في سوريا، هامش المناورة ضيق، خلافاً للعراق حيث قوى البشمركة ذات المناعة العالية ضد الجهاديين، إضافة إلى الواقع السياسي والعسكري بتفاصيله المعروفة قبل سيطرة الدولة «الداعشية». لكن في الحالة السورية تحديد الخط الفاصل بين الاعتدال والتطرف في ساحات القتال يخضع لمعايير ملتبسة وقد ينتج أوضاعاً تتشابك فيها الأولويات والأهداف المتناقضة للأطراف جميعها، دولاً وجماعات. إنها حالة تخبط وضياع وبيئة حاضنة للتقلبات المفاجئة في الاتجاهات كافة.

وبسبب هذا التخبط في الخيارات والأدوات والغايات ولدرء مخاطره، قد يكون مفيداً استنباط وسائل أخرى، متقدمة علمياً ومحايدة في علة وجودها. لمَ لا يتم استخدام كتيبة مقاتلة من رجال (أو نساء) آليين (Robots) يسيّرها Computer. فهؤلاء مقاتلون لا يجذبهم أي دين ولا تشغلهم ملذات الأرض والجنة، جهادهم صائب وصافٍ، فلا حمض نووي لهم ولا أثر لأفعالهم. وهم معتدلون بالتكوين، متطرفون بحسب الأوامر التي يتلقونها من بشر لا نعرف مَن المعتدل منهم ومًن المتطرف!