سياسيّ مخضرم عاصَر العقود الخمسة الماضية من الحياة السياسية اللبنانية لم يستبعد وصول رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، على رغم إدراكه الصعوبات التي تواجه ترشيحَه الذي بات جدّياً إثر موافقة الرئيس سعد الحريري عليه.
ويروي هذا السياسي كيف أنّ سليمان فرنجية الجد وصل الى رئاسة الجمهورية في أيلول 1970 في زمن لم يتوقع له كثيرون هذا الوصول. ففي تلك الايام كان لبنان، كما اليوم، منقسماً بين كتلتين رئيسيتين أولاهما «النهج» الذي كان أركانه يلتفّون حول الرئيس فؤاد شهاب ويصرّون على ان يكون الرئيس منهم ولا يكرّر معهم تجربة الرئيس الراحل شارل حلو الذي بدأ شهابيّاً حين انتخب عام 1964 ثمّ راح يتملّص تدريجاً من التزاماته تجاه «النهج»، خصوصاً تجاه ضبّاط «المكتب الثاني» الذين كانوا ممسكين بمقاليد السلطة في البلاد.
كان مرشح «النهج» آنذاك في البداية شهاب نفسه الذي رفض التمديد عام 1964، ثمّ اعتذر عن الترشيح عام 1970 في بيان مقتضب دان فيه الطبقة السياسية اللبنانية، فرشَّح «النهجيون» يومها الرئيس الياس سركيس على رغم وجود مرشّحين آخرين أقوياء كنائب جزين الراحل جان عزيز والأمير عبد العزيز شهاب اللذين لم يكونا يروقان لضباط «المكتب الثاني» لقوّة شخصيتهما وصعوبة السيطرة عليهما، فحاز سركيس آنذاك على ثقة «النهجيين» وبات مرشّحهم للرئاسة.
أمّا «الحلف الثلاثي» الذي كان يمثّل المارونية السياسية يومها بأركانها الثلاثة، الرئيس كميل شمعون والراحلين ريمون إدة وبيار الجميّل، فقد تمكّن من اكتساح دوائر جبل لبنان في انتخابات عام 1968 مستفيداً من تراجع نفوذ الرئيس جمال عبد الناصر بعد حرب 1967، وتنامي التملمُل الشعبي من ممارسات «المكتب الثاني» التي لم تكن مألوفة بين اللبنانيين آنذاك.
وبين «النهج» و«الحلف» كانت هناك «كتلة الوسط» التي تضمّ الرؤساء الراحلين سليمان فرنجية وكامل الأسعد وصائب سلام. ولم يكن ممكناً لـ«الحلف الثلاثي» أن يفوز بمرشّحه من دون تأييد كتلة الوسط التي كانت تشاطِره الموقف من «المكتب الثاني»، ولكنّها كانت تختلف معه في قضايا أُخرى.
احتدمَ النزاع يومها على الرئاسة وتداخَلت عوامل داخلية وإقليمية ودولية فيها، رغم أنّ كثيرين اعتقدوا أنّ تلك الانتخابات الرئاسية كانت لبنانية صرفة. وكان نواب النهج الشهابي وحليفهم الراحل كمال جنبلاط يَحوزون على اكثر من نصف أعضاء المجلس النيابي، لكنّ موقف جنبلاط كان غامضاً، فهو من جهة لديه اختلافات جذرية مع شمعون أقوى أركان «الحلف الثلاثي».
كذلك كانت له مشكلات مع «المكتب الثاني» الذي اعتبَره السوفيات آنذاك – وهُم حلفاء جنبلاط الرئيسيون – أنّه وجَّه لهم طعنةً في قضية طائرة «الميراج» الفرنسية الشهيرة حين كشَف مخططاً سوفياتياً لاختطافها إلى موسكو.
يومها وافقَ «الحلف الثلاثي» على مضَض على انتخاب فرنجية رئيساً لكي يضمنَ أصوات «كتلة الوسط»، ويمنع وصول مرشّح «النهج» للرئاسة، ولكنّ ذلك أيضاً لم يكن ممكناً من دون تأييد كتلة «جبهة النضال الوطني» برئاسة جنبلاط الذي وزّع أصوات نوابها مناصفةً بين سركيس وفرنجية، تاركاً لصوته الشخصي أن يرجّح كفّة أحدهما بعد أن أصبح اكثرَ ميلاً إلى فرنجية،
معتبراً أنّ في برنامجه «نفحة يسارية وعروبية» وانتخبَه في ضوء هذه النفحة، ففاز فرنجية بفارق صوت واحد (50 مقابل 49)، فيما تردّد رئيس المجلس الراحل صبري حمادة في إعلان النتيجة بحجّة أنّ الغالبية تعني 51 في المئة من الأصوات فيما الخمسون صوتاً يمثّلون 50،5 في المئة من الأصوات، إلّا أنّ توتّراً ساد الأجواء في المجلس النيابي وخارجه فنَصح الرئيس فؤاد شهاب حمادة بأن يعلن النتيجة كما هي.
فوجئ كثيرون يومها بسرعة وصول فرنجية الجد إلى رئاسة الجمهورية، وهو الذي لم يكن لديه كتلة نيابية خاصة به، خصوصاً أنّ زميله وحليفه في نيابة زغرتا الرئيس الراحل رينه معوض كان من أبرز الشهابيين وقد أبلغَه أنه مضطرّ الى انتخاب سركيس.
يقول هذا السياسي المخضرم إنّ ظروف اليوم لا تختلف كثيراً عن ظروف الأمس، فاعتراض تيار «المستقبل» ومَن وراءَه من قوى اقليمية ودولية
على ترشيح رئيس تكتل «التغيير والاصلاح» النائب ميشال عون يَجعله مستعداً للقبول بمرشّح آخر من فريق 8 آذار حتى ولو كان سليمان فرنجية المعروف بصِلاته الوثيقة بالنظام السوري والرئيس بشّار الأسد.
ويضيف السياسي نفسه أنّ المملكة العربية السعودية لا تعترض جوهرياً على فرنجية، فهو ابنُ عائلة سياسية لبنانية ربطَتها منذ سنوات طويلة علاقة قوية بالأسرة السعودية المالكة، وإنّ الرئيس فرنجية الجد كان حريصاً على توثيق علاقاته بالرياض، فيما النائب فرنجية الحفيد وعلى رغم كلّ علاقاته الوثيقة بدمشق لم يخرج منه يوماً أيّ كلام قاسٍ ضدّ القيادة السعودية.
ويؤكد السياسي إيّاه أنّ الرياض وبعض حلفائها في لبنان يَعتبرون أنّ علاقة فرنجية بالأسد لا يجوز أن تشكّل عائقاً في وجه انتخابه، لأنّه في حال استمرار الأسد في السلطة يمكن فرنجية في هذه الحال أن يكون مخفّفاً لأيّ «انتقام» سوري من سياسيين لبنانيين ناصَبوا دمشق العداء في السنوات الاخيرة. وفي حال خروج الأسد من السلطة فإنّ فرنجية يصبح حليفاً لا مشكلات معه، بل هو قادر على التكيّف مع الواقع الجديد.
ويَعتقد السياسي المخضرم أنّ فرنجية قد حرصَ في كثير من مواقفه وتصريحاته على التأكيد أنّه إذا انتُخب رئيساً للجمهورية سيكون لجميع اللبنانيين، ولن يمارس سياسة التشفّي والانتقام من أيّ من القوى السياسية بما فيها «القوات اللبنانية»، وهو أعلنَ في مناسبات عدة أنّه لن يتوقف أمام ما حصل بين «المردة» و»القوات» عام 1978 على رغم مرارة ما حدث يومها لوالده ووالدته وشقيقته وبعض أنصاره.
لكنّ هذا السياسي لا يقلّل أبداً من الصعوبات التي تواجه ترشيحَ فرنجية، وأهمّها إمكانية تشكيل جبهة مسيحية معارضة له تضمّ خصوصاً عون ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، ولا يُستبعَد أن ينضمّ حزب الكتائب إليها، وهذا أمرٌ من شأنه أن ينزع الغطاء المسيحي عن فرنجية.
وبالإضافة إلى هذا الاعتراض المحتمل، يَعتقد السياسي المخضرم، أنّ حزب الله لن يتخلّى عن حليفه عون الذي يقدّر وقوفَه إلى جانبه في المراحل الصعبة التي مرّ بها، إذ ليس من عادة الحزب، كما يقول، أن يتخلّى عن حلفائه.
وفي الوقت نفسه يظنّ هذا السياسي أنّ فرنجية نفسه ليس مستعدّاً لرئاسة تُبعده عن عون وحزب الله في الوقت نفسه، وبالتالي فإنّ عليه أن يسعى لكي يتبنّى عون ترشيحَه على قاعدة التعهّد بجملة أمور يطالب بها الأخير بدءاً بقانون الانتخاب ووصولاً إلى تعيين العميد شامل روكز وزيراً للدفاع.
وبهذا المعنى، يرى السياسي نفسه، أنّ عون ما زال يأمل في أن يقتنع الحريري به، وهو يعتقد أنّ مَن اقتنعَ خلال أسبوعين بفرنجية رئيساً يمكن أن يقتنع خلال شهرين بعون رئيساً.
بعض الديبلوماسيين الأجانب يعتقد أنّ وصول فرنجية إلى قصر بعبدا هو أوّل ثمرات التحوّل الميداني في سوريا لمصلحة الأسد وحلفائه، خصوصاً بعد التدخّل الروسي الذي يَتوقع كثيرون أن يزداد كمّاً ونوعاً بعد إسقاط تركيا الطائرة الروسية.
في كلّ الحالات يبقى لبنان بسياساته وعلاقاته عنصرَ مفاجآتٍ دائمة، فمَن كان يصَدّق أنّ السياسي اللبناني الأقرب لسوريا ولرئيسها قد يُنتخَب رئيساً للجمهورية اللبنانية بعد 5 سنوات من «حرب كونيّة» كما يقول أنصار النظام السوري، نجحَت في إضعاف القيادة السورية ولكنّها لم تتمكّن من إسقاطها.