Site icon IMLebanon

من جنيف إلى فيينا: سورية دمية في «لعبة الأمم»

سيكون شأن ما سمي أخيراً «إعلان فيينا» (30 تشرين الثاني/نوفمبر 2015) أشبه بما سمي من قبل «بيان جنيف 1» (30 حزيران/يونيو 2012) لجهة كونهما مجرد «تسوية موقتة» بين الكبار لا دخل لسورية ولا للسوريين الذين ينزفون دماً وجوعاً وتشرداً في أنحاء العالم بهما. ومع أن الثاني في الأجندة الزمنية، أي «إعلان فيينا»، كشف وجود خلاف حول مستقبل رئيس النظام بشار الأسد، أو ما عبّر عنه وزير الخارجية الأميركي جون كيري بقوله: «اتفقنا على أن نختلف»، فيما لم يشتمل الأول على شيء من ذلك، وأن ثلاثة أعوام وخمسة أشهر فصلت بين الحدثين اللذين هدفا الى انهاء المأساة السورية، فمصيرهما يبدو واحداً: مجرد وثيقة ميتة أخرى من وثائق الأمم المتحدة. والأدهى، أن الوثيقتين صدرتا مذيلتين باسم «مجموعة العمل من أجل سورية».

لكن مقارنة سريعة بينهما تكشف، نظرياً وعملياً، الى أي حد باتت سورية وثورتها الشعبية ضد النظام العائلي/الطائفي/الديكتاتوري أسيرة ما يسمى «لعبة الأمم» خلال الفترة التي فصلت بين الحدثين. ومن دون التقليل من نهم «الأمم» هذه للهيمنة على سورية، واستطراداً على المنطقة عموماً، لا حاجة للقول إن ما قام به نظام الأسد خلال تلك الفترة هو الذي فتح الأبواب على مصاريعها أمام كل من يريد أن يقتطع لنفسه شريحة منها.

> في جنيف، مثلاً لا حصراً، جرى الحديث عن «خطوات» يتعين أن يقوم بها النظام، وأخرى تقوم بها أطراف المعارضة، وثالثة تقوم بها الدول الراعية للعملية، كما عن «تصور للمستقبل»، و «مبادئ وتوجيهات عامة» و «خطوات في المرحلة الانتقالية» و «خطط سريعة للتوصل الى تسوية ذات صدقية»، بينما لم يرد شيء من ذلك في فيينا.

وبغض النظر عن واقعية، أو عملية هذه العناوين الفرعية لـ «بيان جنيف»، وما تم على صعيدها في الأعوام الخمسة الماضية، فليس مبالغاً به القول إنها كانت تهدف فعلاً الى وضع النقاط الست التي صاغها المبعوث السابق المشترك، للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، كوفي أنان موضع التنفيذ. في المقابل، ليس في «إعلان فيينا» ما يشي بمثل هذا الانطباع مع أنه نص في أكثر من مكان على أن مرجعيته هي المبادئ الواردة في «بيان جنيف 1».

> في جنيف أيضاً، جاء الكلام على المرحلة الانتقالية محدداً: «إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية. وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية هذه كامل السلطات التنفيذية. ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية ومن المعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة».

أما في فيينا، فجاء الكلام عائماً الى حد أن النظام اعتبره تراجعاً عن «هيئة الحكم الانتقالية» وأنه دعم كامل ليس لموقفه منذ جنيف بوضع محاربة الإرهاب في رأس الأولويات، انما أيضاً لموقفه القائل إن لا تسوية سياسية ممكنة في سورية قبل انتهاء المعركة ضد الإرهاب.

النص في فيينا كان كما يأتي: «دعم وقف إطلاق النار وفقاً لعملية تخضع لقيادة سورية وفي غضون 6 أشهر، وإقامة حكم ذي صدقية وشامل وغير طائفي (في مكان آخر علماني) ووضع جدول زمني وعملي لصياغة دستور جديد. وستنظم انتخابات حرة ونزيهة وفقاً للدستور الجديد في غضون ثمانية عشر شهراً، ويجب أن تدار هذه الانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة ووفقاً لأعلى المعايير الدولية للشفافية والمساءلة».

لا بد هنا من ملاحظة أن فيينا تحدثت عن «دستور جديد»، فيما اكتفت جنيف بالقول بتعديل الدستور القائم، وهو عملياً خطوة متقدمة الى الأمام.

> في جنيف، كلام واضح عن «أن طبيعة الأزمة وحجمها غير المقبولين يتطلبان موقفًا موحداً وعملاً دولياً مشتركاً»، وعن «إجراءات فورية وذات صدقية وبادية للعيان تتخذها حكومة الجمهورية العربية السورية لتنفيذ خطة البنود الـ6، بما يشمل تكثيف وتيرة الإفراج عن المحتجزين تعسفاً وتوسيع نطاقه، ليشمل خصوصاً الفئات الضعيفة والأشخاص الذين شاركوا في أنشطة سياسية سلمية، ووضع قائمة بجميع الأماكن التي يُحتجز فيها هؤلاء الأشخاص وتقديمها بلا تأخير من طريق القنوات المناسبة، والعمل فوراً على تنظيم الوصول إلى هذه المواقع، والرد بسرعة على جميع الطلبات المكتوبة المتعلقة بالحصول على معلومات في شأن هؤلاء الأشخاص أو بالوصول إليهم أو الإفراج عنهم»، وعن «ضرورة الضغط على جميع الأطراف لتطبيق خطة البنود الـ6 بما في ذلك وقف عسكرة الأزمة والوصول الى تسوية بطريقة سياسية وعبر الحوار والمفاوضات فقط».

ولا شيء من ذلك في «إعلان فيينا». بدلاً منها، تحدث الإعلان عن تكاتف القوى الدولية لمحاربة كل من «داعش» و «جبهة النصرة»، وعن اقتصار وقف اطلاق النار على قوات النظام وفصائل المعارضة «غير الإرهابية»، وعن محاولة احتواء مئات آلاف النازحين السوريين الى الدول الأوروبية والمساعدة على اعادتهم الى بلدهم و… هذه كلّها من ثمار الفترة التي فصلت بين المؤتمرين (ثلاثة أعوام وخمسة أشهر) والتي يتحمل الأسد مسؤولية أولى ووحيدة عنها.

في هذه الفترة، استقدم النظام «جيوشاً» كاملة من ميليشيات «حزب الله» اللبناني و «عصائب أهل الحق» العراقية و «الحرس الثوري» الإيراني بعدما كانت قبل ذلك رمزية الى حد ما. وفيها، أقام «تنسيقاً» غير مباشر (مثله مثل رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي) مع «داعش» عندما سلمه من دون قتال كلاً من الرقة وتدمر. حتى اذا فشل في ذلك كله، بل بدا على وشك السقوط الكامل، فتح الباب أمام فلاديمير بوتين ليتدخل الى جانبه في القتال ضد معارضيه بدعوى محاربة الإرهاب.

في هذه الفترة أيضاً، كان حليفاه الإيراني والروسي قد اختبرا، من وجهة نظرهما، ردود أفعال الغرب، والولايات المتحدة تحديداً، على سياساتهما في سورية وفي المنطقة في شكل عام، من خلال توقيع ايران الاتفاق النووي مع الدول الـ6 الكبرى من جهة، واجتياح روسيا شبه جزيرة القرم وتهديد وحدة أراضي أوكرانيا من جهة ثانية، ولينطلقا منهما الى ما يمكن وصفه بـ «التعامل الفوقي» ليس فقط مع كل من يعارض الأسد ونظامه، محلياً وسورياً، انما كذلك مع كل من يقف ضده، إقليمياً وعربياً ودولياً. ولعل التعنت الروسي والإيراني في فيينا، بعد أن كانت موسكو في أساس صيغة بيان جنيف، في ما يتصل بمستقبل الأسد والتمسك بأن يكون جزءاً من الحرب على الإرهاب وحتى من التسوية اذا ما تم التوصل اليها، يعكس هذه الحقيقة.

أما سورية، الدولة والأرض والشعب، فباتت بسبب سياسة الأسد هذه، ولتمسكه بالسلطة على رغم كل شيء، مجرد دمية صغيرة في «لعبة الأمم».