يسود اعتقادٌ عند خصوم «حزب الله» من لبنان الى الخليج، وصولا الى أميركا ودول غربية، أن الحزب في موقع ضعيف ويمكن توجيه ضربات قاضية ضده عسكريا في سوريا، وارهابيا على مستوى قوانين عربية ودولية، وماليا من خلال التضييق على بيئته الحاضنة كي تتمرد عليه، وعربيا من منطلق ان الحزب يفقد شعبيته العربية بعد انخراطه في حروب كثيرة. وحدها إسرائيل من المعسكر المعادي للحزب تعترف بأن قدراته تتعاظم (راجع المعلق العسكري في صحيفة هآرتس عاموس هرئيل وغيره)، وهي مثله تتجنب الحرب حاليا… لكن الى متى؟
يسود اعتقادٌ مناقض لدى الحزب وحلفائه بأن وضعه ممتاز. انخراطُه في سوريا عزّز قدراته القتالية على أرض غير أرضه. صواريخه الحديثة قادرة على ايلام إسرائيل في الأيام الأولى لأي حرب مقبلة. جزء من هذه الصواريخ جاهز للانطلاق في أي لحظة. تعديله لتكتيك القتال يمنع إسرائيل من ضرب بنيته حتى لو طال أمد الحرب. بيئته الحاضنة لم تشهد أي انشقاق فعلي، هي لا تزال تضخ خيرة شبابها للقتال. ثم ان الدور الإقليمي للحزب صار مهما الى درجة أن إيران نفسها تلجأ اليه في بعض الملفات العالقة مثل العراق واليمن إضافة الى سوريا وغيرها.
أمام النظرتين المتناقضتين، يبدو أن المرحلة المقبلة مرشحة للتصعيد ضد الحزب، وربما من قبله.
ماذا في الظواهر والاسباب؟
÷ منذ اندلاع شرارات الحرب في سوريا، شعر الحزب وايران انها موجهة أيضا وخصوصا ضدهما. قال أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله في خطابه في ملعب الراية في 6 كانون الأول 2011، أي في الأشهر الأولى للحرب، «هذا المجلس (السوري المعارض) له رئيس اسمه برهان ديب غليون وهو أستاذ جامعي، منذ يومين أو ثلاثة يقول: نحن إذا استطعنا أن نغيّر النظام واستلمنا السلطة في سوريا، نريد أن نقطع علاقتنا مع إيران «مفهوم»، ونريد أن نقطع علاقتنا مع حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، وسمّى «حزب الله» و «حماس»، حسناً، هذه أوراق اعتماد لمن؟ هذه ورقة اعتماد للأميركي والإسرائيلي». ربما اعتقد نصرالله بداية ان انخراطه لن يطول والخسائر ستكون محدودة. تبين لاحقا ان الطرف المقابل، شرس القتال، مدرب، مدعوم، له حدود مفتوحة وخزائن واعلام، وله بيئة حاضنة… لا يزال الحزب حتى اليوم يعتبر ان لا نهاية للحرب الا بـ «الانتصار» الحتمي الذي تحدث عنه امينه العام غير مرة. العنوان الفعلي لحسم المعركة هو حلب وريفها. ما لم يحصل ذلك، فالاستنزاف مستمر. لكن حلب صعبة وكانت حتى اجتماع وزراء الدفاع السوري والإيراني والروسي ممنوعة. (هل تغير الوضع بعد الاجتماع؟).
÷ ثمة رغبة إقليمية ودولية بفصل إيران عن «حزب الله». وفصل سوريا عن إيران. يُلاحظ مثلا أن كل انفراج دولي مع طهران يسبقه او يعقبه تضييق على الحزب. لكن العارفين بعمق العلاقة بين إيران وحليفها اللبناني الأول في المنطقة، يدركون أن هذا وهم. يقولون ان للسيد نصر الله حظوة في إيران تكاد توازي كبار الأئمة الإيرانيين. إيران بلا «حزب الله» في المحيط العربي ستكون بمثابة العربة الكبيرة بلا محرك. جناحها الشيعي في العراق دائم الارباك لها بسبب تناقضاته وتضارب مصالح اطرافه. حلفاؤها في اليمن غير مضمونين على المدى البعيد. (دعمها لهم بقي محدودا لاعتبارات إقليمية وهم لم يلتزموا دائما بنصائحها لعدم التوجه جنوبا مثلا). بعض حلفائها في فلسطين ارتموا في أكثر من حضن، وبعضهم صار ضدها في مرحلة النشوة الاخوانية. الحزب ليس مجرد امتداد للفكر العقائدي والديني لإيران. هو الذي شرعن دورها كدولة داعمة للمقاومة. هو أيضا الذي تولى مواجهة السعودية عسكريا في سوريا ولكن أيضا بخطاب ناري (بينما بقي الخطاب الرسمي الإيراني هادئا في معظم الأوقات). من المستحيل إذا فصل إيران عن الحزب، على الأقل في السنوات المقبلة.
تطويق الحزب إقليميا ولبنانيا ودوليا
التزامن في جبهات تطويق الحزب محليا وإقليميا ودوليا لافت، وهذه مؤشراته:
÷ محلياً، بغض النظر عن الأسباب التي أدت الى فوز لائحة وزير العدل المستقيل اللواء أشرف ريفي في الشمال، فان ريفي هو النموذج المرغوب إقليميا ودوليا لمواجهة الحزب. أقدم حيث قصّر تيار المستقبل. استمر في تحريك الساحة الشمالية ضد الحزب والنظام السوري. ربما حصل على تمويل ودعم خليجي وتركي وربما لا. (يقال انه زار الامارات قبل الانتخابات وتركيا بعدها). ليس هذا مهما، الأهم أنه بفوز لائحته شكّل بديلا
احتياطيا لمن يقصِّر مستقبلا ضد «حزب الله». لعل رئيس الحكومة السابق سعد الحريري التقط الرسائل السعودية وغيرها مباشرة، ولو متأخراً. هو عاد لفتح النار وسيفتحها أكثر على الحزب وإيران وسوريا. ما لم يفعل فللسعودية بدائل في لبنان. هذه رسالة الشمال.
÷ إقليمياً، تتصدر السعودية الجبهة ضد «حزب الله». هي نجحت في جذب دول الخليج ومعظم الدول العربية خلفها لوضعه على لائحة الإرهاب. ساهمت في ابعاد لبنانيين من الخليج بتهمة او بمجرد الاشتباه بعلاقة مع الحزب. هي تبرد الملف اليمني وترفع حرارة المواجهة ضد الحزب وإيران في سوريا. المواجهة مرشحة للاستعار أكثر هذا الصيف.
÷ دولياً، يراد بالضغط المصرفي والمالي على الحزب، استكمال الحملة التي قارنته بداعش والنصرة والقاعدة وغيرها. يراد أيضا تأجيج البيئة الشيعية الميسورة ضده. ثمة من يعتقد بأن دفع الحزب للطلب من بيئته سحب الودائع من المصارف، هو سيف ذو حدين، خصوصا وان قسما من هذه البيئة سيرفض الطلب ليس كرها بالحزب وانما حرصا على سلامة استثماراته وعلاقاته. يعتقد خصوم الحزب ان هذا سيوسع قاعدة الناقمين على الحزب في لبنان.
÷ دوليا وإقليميا، يجري التحضير لقيادة فلسطينية جديدة بعد إنهاك حماس. يبرز كثيرا اسم محمد دحلان الموجود في الامارات. الضغوط العربية دفعت الرئيس محمود عباس لتأييد الحرب على اليمن وتأييد الحملة ضد «حزب الله». يحكى عن ضغوط أخرى قد تصل الى حد مطالبة القيادة الفلسطينية الحزب بعدم التدخل في فلسطين. الخطر من توجيه بعض التكفيريين الفلسطينيين ضد الحزب من بعض مخيمات لبنان ممكن.
المواجهة المحتملة من حلب الى اسرائيل
يحتاج «حزب الله» وإيران وسوريا الى حسم معركة حلب. لكن المعركة صعبة ومعقدة عسكريا خلافا لأوهام البعض بحسم سريع. الطرف الآخر يقاتل بشراسة وبتقنيات لافتة وعنده دعم عسكري ومالي وبيئة مؤيدة ومئات الانتحاريين الحالمين بالموت على الجبهة. والمعركة ممنوعة سياسيا حتى اشعار آخر. لن تحصل ما لم توافق روسيا وتدعم.
هنا السؤال المفصلي: هل يقبل الغرب وإسرائيل وتركيا ودول الخليج انتصاراً في حلب لمحور إيران ـ سوريا ـ «حزب الله» بدعم روسي؟
الجواب نعم، إذا كانت تسوية كبيرة قد حصلت تحت الطاولة بين اميركا وروسيا تشمل تركيا وإسرائيل وإيران وربما السعودية وقطر. مثل هذه التسوية تفترض تخلي إيران عن مقاومة إسرائيل، ووضع أسس لمفاوضات سورية إسرائيلية، ومنع قيام دولة كردية، وتوسيع قاعدة الحكم في سوريا لتشمل أجزاء من المعارضة مقبولة سوريا وروسيا وخليجيا. وخصوصا انهاء دور «حزب الله».
مثل هذه التسوية، تنتمي حاليا الى عالم الأحلام وليس الواقع، اما الواقع فلا يستبعد مطلقا أن يكون تنسيق كل هذه الحركة ضد «حزب الله» محليا وإقليميا ودوليا، تمهيدا لخلق بيئة مؤاتية لضربة إسرائيلية في أسوأ التوقعات، او تكون خطة لدفع إيران وسوريا والحزب للقبول بتنازلات مهمة في سوريا قد تصل الى مستوى التقسيم.
ليس منطقيا ان تشن إسرائيل حربا الآن. المشهد العربي والإسلامي يناسبها تماما فلماذا تعكّر صفوه؟ لكن جل حروب إسرائيل قام بلا منطق. اما سورياً فالمنطقي ان يكون الحزب بصدد وضع خطط لحرب قد تطول بعيدا عن أوهام البعض بأن حسمها مسألة أشهر.
هل يقلب الحزب الطاولة على الجميع؟ ويبدأ من لبنان؟ ربما نعم، وفق دبلوماسي عربي التقى بعض الحزبيين مؤخرا، لكن المقربين من القيادة يقولون ان «حزب الله» بات جسرا إلزاميا للجميع للوصول الى أي تسوية في لبنان أو الخارج، وان هذا ما يدفع خصومه للتصعيد ضده، وانه لن ينجر الى فخاخ لبنانية يراد منها تأليب البيئة اللبنانية ضده. هم يقولون أيضا ان ثمة أوراقا كثيرة في لبنان والخارج لم تُلعب بعد، وإنها ستظهر تباعا…
المشكلة الفعلية تكمن في ان كلا من الحزب وحلفائه من جهة وخصومهم من جهة ثانية، يعتبرون ان الفرصة مؤاتية لهم. لكن الحقيقة ان الجميع يغالي في توصيف حاله، والجميع عالق في فخ لا يعلم غير الله كيف الخروج منه بلا خسائر كبيرة ومدمرة. والساحة التي ستبقى مفتوحة الى اجل غير مسمى هي سوريا. لا شك ان المستقبل على بركان، وان البركان اللبناني برسم التوجه المقبل لتيار «المستقبل». لعل هذا ما سعى رئيس «اللقاء الديمقراطي» وليد جنبلاط للتحذير منه في مقابلته الأخيرة.