IMLebanon

من كوسران إلى جيرو: لم يتغيّر الملعب واللاعبون

انتخاب رئيس للبنان همّ رئيسي لباريس لكنه ليس الوحيد، ولأن ليس في وسعها تقرير مصير الاستحقاق بمفردها. لم يعد يسعها سوى الاضطلاع بدور الوسيط في ملف شائك، باتت الدول الاقليمية اكثر تأثيرا في التلاعب به

من غير المتوقع الحصول من باريس على موقف مباشر من انتخابات رئاسة الجمهورية، سوى تأكيدها ضرورة اجرائها واعادة اطلاق عمل المؤسسات الدستورية، بدءا من رئيس الدولة. كان ذلك القاسم المشترك الذي سمعه رئيس الحكومة تمام سلام من مضيفيه المسؤولين الفرنسيين، وبدا هو الحافز الفعلي لمهمة رئيس دائرة الشرق الاوسط وشمال افريقيا في الخارجية الفرنسية جان فرنسوا جيرو.

يُنظر في الكي دورسيه على ان المهمة الحالية لجيرو مطابقة، في احسن الاحوال، لتلك التي نيطت عام 2007 بالسفير جان كلود كوسران موفد وزير الخارجية السابق برنار كوشنير، ابان ولاية الرئيس نيكولا ساركوزي. كلا الرجلين يكادان يكونان من مدرسة واحدة سواء بالمامهما الواسع بمشكلات الشرق الادنى ومتاعبه، وخصوصا لبنان وسوريا، او بباعهما الطويل في التفاوض.

لم يتغير الملعب، ولا اللاعبون القريبون والبعيدون. عام 2007 عمل كوسران، ومن بعده الامين العام للرئاسة كلود غيان قبل رفع مستوى التدخل الى وزير الخارجية، وسيطا لدى سوريا وايران في سبيل تسهيل انتخاب رئيس الجمهورية، واخفقوا جميعا تباعا. كذلك يفعل جيرو اليوم لمهمة مماثلة يصطدم نجاحها بكمّ غير قليل من العراقيل. سفير سابق في سوريا والعراق بعدما خدم في ايران، الى ان استقر في منصبه الحالي في حزيران 2012. كان سفيرا لدى دمشق في استحقاق 2007، واضحى على تماس مع الجهود الدولية في الاشهر الستة التالية التي افضت الى انتخاب الرئيس ميشال سليمان في اتفاق الدوحة، ورافق انتقال العلاقات الفرنسية ـ السورية من العداء الى التطبيع، ثم الى استعادة الثقة تدريجا عام 2008 بين ساركوزي والرئيس بشار الاسد.

رفعت الخارجية الفرنسية الى الاليزيه تقريرا اطرى على غانم بعد زيارته باريس

بيد ان مفتاح علاقات الرجلين كان بين ايدي الرجلين القويين في الاليزيه آنذاك: المستشار الديبلوماسي للرئيس الفرنسي جان دافيد ليفيت والامين العام في الاليزيه كلود غيان.

ما يميز الدور الفرنسي في استحقاق اليوم عن استحقاق الامس بضعة معطيات:

اولها، ان ملف لبنان اضحى في مكانه الطبيعي في الكي دورسيه، خلافا لحقبة ساركوزي عندما وضعه في ادراج مكتبه في الاليزيه، واولاه اهتماما مباشرا من خلال معاونيه المباشرين. لا يقلل الرئيس الحالي فرنسوا هولاند الاهتمام، الا ان ترتيب الاولويات اضحى مختلفا وهو يتطلع الى دورين رئيسيين في المنطقة: في التسوية الغربية ــــ الايرانية على برنامج السلاح النووي الايراني لئلا تقطف واشنطن ثمارها وحدها، وفي انهاء الحرب السورية باخراج الاسد من معادلة التسوية السياسية كي لا تصبح طهران وموسكو رابحتين لوحدهما. لم يحل ذلك دون توجيه انتقاد مبطن الى الرئيس لاحلاله لبنان وازمته في منزلة دنيا، ووضع ملفه بين يدي جيرو فحسب كونه رئيس الدائرة الشرق الاوسطية التي يدخل هذا البلد في نطاقها.

ثانيها، لم تفضِ جولات جيرو على الدول ذات التأثير المتفاوت على الاستحقاق الرئاسي اللبناني سوى الى تأكيد نيات ليس الا، في ايران والسعودية والفاتيكان وقد اتسمت بايجابية ظاهرة. كان لروسيا موقف اقل حماسة. ما تشيعه اوساط الخارجية الفرنسية عن موسكو انها لم تقل بالتأكيد انها لا تريد انتخاب رئيس للبنان، بيد انها نظرت اليه كجزء لا يتجزأ من نظرة اوسع محورها الحرب السورية. ما استخلصه جيرو من زيارته لها انها تولي كل الجهود للتوصل الى تسوية سياسية لحرب سوريا اولا. يتحدث المسؤولون الروس بجدية عن هذه الاولوية التي تفضي، ليس الى استقرار سوريا فحسب، بل ايضا جيرانها واخصهم لبنان. ورغم اختلاف علاقة كل منهما بلبنان، تلتقي باريس وموسكو على ان لا حلفاء مباشرين لهما في لبنان يسعهما التأثير الفوري عليهم على غرار ايران لدى فريق لبناني، والسعودية لدى فريق لبناني آخر، وعلى غرار العلاقة المرجعية لموسكو بالنظام السوري. بيد ان باريس تعوّل على العلاقات التاريخية بينها وبين هذا البلد، بما يجعل كلمتها مسموعة لدى معظم الافرقاء اللبنانيين تقريبا.

ثالثها، يطابق اسلوب عمل جيرو في المأزق اللبناني اسلوب عمل الموفد الاممي الى سوريا ستيفان دوميستورا في البحث عن حل لحربها. تقول الخارجية الفرنسية ان جيرو يشتغل وفق قاعدة استمرار التواصل وتتالي الجولات المكوكية بين البلدان المؤثرة وتعزيز التواصل، ومن ثم عدم اليأس من التفاوض، علّه بمرور الوقت يحصل على القليل من التقدّم ــــ وان البطيء ــــ ما يمكنه تدريجا من البناء عليه واحداث اختراق في جمود الازمة. بتفاؤل مشوب بحذر، يعمل على انتزاع ايجابية تصلح لاطلاق تفاهم اقليمي على انتخاب الرئيس اللبناني. لمس من طهران الايجابية تلك، الا انها لا تزال تحتاج الى ادلة ملموسة اكثر جدية. مع ذلك تصلح نقطة بداية لاجراء تقاطع بينها والرياض. وهو كل ما يحمله في جعبته حتى الآن على الاقل.

رابعها، لا تتدخل باريس، في العلن في احسن الاحوال، في اسماء المرشحين لتزكية احدها. الا انها تصنّفها. المرشحون الاربعة الكبار تنعتهم بأنهم مرشحو الصف الاول (الرئيسان امين الجميل وميشال عون والنائب سليمان فرنجيه وسمير جعجع)، بيد انها تشكك في وصول اي منهم الى الرئاسة بسبب عدم تمكنه من نيل اقرب اجماع وطني على انتخابه. لا تمانع في انتخاب عون اذا كان في وسعه نيل ثقة البرلمان بانتخابه، غير انها تلتقي مع رأي شائع باستحالة وصوله الى المنصب. تتحدث بعد ذلك عن مرشحي صف ثان بينهم النائب روبير غانم والنائب والوزير السابق جان عبيد وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. في اوساط على صلة وثيقة بالكي دورسيه، ان الخارجية الفرنسية رفعت الى الاليزيه قبل فترة تقريرا اطرى على مواصفات غانم الذي كان زار باريس لاسابيع خلت، والتقى مسؤولين في الرئاسة ووزارة الخارجية، وخلّف انطباعات ايجابية.

خامسها، في ظن جيرو ــــ وهو ما افصح عنه امام شخصيات لبنانية التقى بها في احتفال السفارة تكريما لسلام مساء 11 كانون الاول ــــ ان ثمة مناخا اقليميا مؤاتيا لانتخاب الرئيس يقتضي بالافرقاء اللبنانيين ملاقاته، والعمل على انجاز الاستحقاق بلا تردد وعراقيل، وعدم تفويت السانحة. على طرف نقيض من هذا الموقف، الا انه يتقاطع واياه في الاستنتاج، ما قاله رئيس الحكومة لجيرو لدى استقباله له في السرايا عشية زيارة باريس، وكان قد اعلمه انه في صدد جولة اقليمية جديدة منتصف كانون الاول. بعدما حضه على بذل مزيد من الجهود والاستعجال، قال سلام للموفد الفرنسي الخاص: كلما تأخر الوقت في انتخاب الرئيس تراكمت الصعوبات، وبات حل المشكلة اكثر تعقيدا. ذلك ما يجب ان تقوله ايضا للدول التي ستزورها. يجب ان يعرفوا ان الوقت يلعب ضدنا.