لم يكد محور المقاومة يلتقط أنفاسه بعد انتصاره في جولات الميدان السوري والعراقي الأخيرة، من استعادة كامل حلب إلى إعادة ربط جغرافيا البادية العراقية والسورية، حتى انخرطت قوى العدوان على سوريا والعراق ولبنان في تهيئة أدوات جديدة لاستكمال الحرب، واستلحاق توازن عسكري وسياسي مفقود.
قبل أسابيع، كان مسؤول حكومي إيراني رفيع المستوى في طهران، يشرح لضيوفه المخاطر السياسية الكبيرة التي تحملها المرحلة المقبلة على المنطقة، انطلاقاً من الواقع العراقي وتطوّرات المشهد الكردي. استثمر الإيرانيون جهداً ومالاً وسلاحاً ودبلوماسية لمدّ جسور تعاون مع قيادات إقليم كردستان، ولم تبتعد عينا قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني عن الإقليم منذ سيطرة تنظيم «داعش» على مدينة الموصل في حزيران 2014. ساعد سليماني الأكراد، بالسلاح والاستشارات، على حماية أربيل من الاجتياح الداعشي، لكن من دون أن يكون لما قام به أي جدوى سياسية، باستثناء الشكر الذي وجهه مسعود البرزاني لإيران عقب وقف زحف التنظيم الإرهابي. «رهاننا عليهم خَسِر، هم أدوات لأميركا والسعودية وإسرائيل» قال المسؤول الإيراني، في توصيف لواقع مسعود البرزاني وشلّته… بلا دبلوماسية. ويضيف: «انفصال كردستان يستهدف أمن إيران وتفتيت العراق، بعدما هُزم داعش والقاعدة». ليست أزمة كردستان وحدها التي تقلق الإيرانيين، فمحاولات تعميم التجربة الكردية والمطالبة بالاستقلال، تكاد تتحوّل إلى خيار يحاول الأميركيون تعميمه على العراق، عبر دفع عددٍ من القيادات السنيّة العراقية للمطالبة بـ«إقليم سنّي» مشابه، بعد هزيمة «داعش»، فضلاً عن المال والجهد السياسي الذي يبذله الأميركيون والسعوديون، لفرز القوى الشيعية العراقية، وعزل التأثير الإيراني والتصويب على دور حزب الله في الداخل العراقي. لم يكتفِ المسؤول الإيراني بالتعبير عن قلق بلاده من التطوّرات السياسية، مع اطمئنانه إلى مسار العمليات العسكرية في سوريا والعراق، إنّما أكّد لزوّاره أن الدول الداعمة للإرهاب، لم تستسغ انتصارات المقاومة والجيش السوري على الإرهابيين (طرد «جبهة النصرة» من جرود عرسال)، ولذلك «ستسعى إلى رفع الضغط على المقاومة في لبنان».
أمّا في سوريا، فاستطاع الجيش السوري وحلفاؤه تحويل اتفاقات «خفض التصعيد» الروسية ــــ الأميركية، إلى اندفاعة عسكرية هي الأكبر منذ بداية الحرب، والانقضاض على تنظيم «داعش» من حمص وحماة، وصولاً إلى الحدود العراقية والأردنية، وفكّ الحصار عن مدينة دير الزور، وضرب المعارضة المسلّحة ضربات قاصمة وتفكيك قواها الرئيسة. وفيما لا يزال شدّ الحبال الأميركي ــ الروسي مستمراً في الشرق السوري وشرق نهر الفرات، قطع الجيش السوري وحلفاؤه الطريق أمام «قوات سوريا الديموقراطية» المدعومة من الأميركيين ومنعها من التوسّع، لتجد إسرائيل نفسها مضطّرة إلى التدخل في سياق الحرب السورية بشكل مباشر، إما عبر رفع مستوى الدعم المباشر لجماعات إرهابية أو عبر القصف الجوّي، مع فشل الجماعات المدعومة منها ومن حلفائها في تحقيق إنجازات ميدانية في الجنوب السوري منذ 2015.
يقول دبلوماسي غربي لـ«الأخبار» إن «المعارضة السورية وحلفاءها هُزموا أمام (الرئيس السوري بشار) الأسد يوم سقطت حلب، بعدما نجح الروس في تحييد تركيا»، مضيفاً أن «إسرائيل اعتبرت سقوط حلب تحوّلاً كبيراً في مجرى الحرب. والآن، بعد وصول السوريين وحزب الله إلى الحدود الأردنية والعراقية، الغضب الإسرائيلي تفاقم كثيراً ولن يسمحوا ببقاء الوضع على ما هو عليه». في معلومات الدبلوماسي الغربي أن «إسرائيل أبلغت روسيا وأميركا أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام تهديد أمنها من لبنان وسوريا»، وأن «إسرائيل تتفق مع السعودية على ضرورة حصار حزب الله في لبنان بشتّى الطرق».
هي ليست محاولات الحصار الأولى للمقاومة في لبنان. دفع الأميركيون والسعوديون منذ عام 2005 حتى عام 2009، ما يزيد على ملياري دولار في لبنان من دون نتيجة. بالنسبة إلى مصادر ميدانية في قوى 8 آذار، «سقط رهان أميركا وإسرائيل والسعودية على الجماعات الإرهابية، فاتجهوا نحو البديل، أي استخدام الكرد في العراق لقلب الطاولة، ومحاولة حصار المقاومة في لبنان. يريدون تطويق الانتصارات السورية. ليس ناقصاً إلّا أن تشنّ إسرائيل حرباً مباشرة».
وفيما بدت حركة «الاستدعاءات» السعودية لسياسيين لبنانيين إلى الرياض، كمؤشّر على شيءِ ما، يحضر له السعوديون لتحريك الساحة اللبنانية، تبدو العقوبات الأميركية المنتظرة على المقاومة وسيلةً جديدة للضغط على حزب الله، وخصوصاً بعد إصدار لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي، أمس، قرارين جديدين بفرض عقوبات على مؤسسات وهيئات تابعة للحزب، وعلى كلّ من يتعامل معها. وسيلة الضغط الثانية ليست سرّاً أيضاً، وهي قوات الطوارئ الدولية «يونيفيل»، التي تواجه قيادتها ضغوطاً أميركية وإسرائيلية كبيرة لتغيير نمط عملها في الجنوب اللبناني. وبحسب معلومات الدبلوماسي الغربي، فإن «الأميركيين والإسرائيليين أعطوا مهلةً لقيادة يونيفيل لتغيير سلوكها مع قرار التمديد الأخير لها، ومن الآن وحتى موعد التمديد المقبل، فإن على هذه القوات ردع حزب الله عن تخزين الأسلحة في الجنوب». ويقول الدبلوماسي إن «يونيفيل مطالبة بتفتيش المنشآت والبيوت التي يحتمل أن يكون حزب الله يستخدمها لتخبئة الأسلحة، وإبلاغ الأمم المتحدة عن أي خروق للقرار 1701، وكذلك دخول يونيفيل إلى كل المناطق التي كانت ممنوعة من دخولها سابقاً جنوبي الليطاني». ماذا سيكون ردّ فعل أهالي الجنوب تجاه هذه الإجراءات؟ يردّ الدبلوماسي بأن «قيادة يونيفيل ستواجه مشاكل كثيرة، وإذا لم تستجب للطلبات الأميركية والإسرائيلية، فقد يعمل الأميركيون على تغييرها والإتيان بمن ينفّذ هذه السياسة».
بالنسبة إلى مرجع سياسي في قوى 8 آذار، فإن «التحرّك الكردي لا ينفصل عما يحاك للمقاومة في لبنان. المطلوب تعميق الفرز في المنطقة، وإرباك الساحة العراقية ردّاً على النصر السوري. وسيتبعه إرباك للساحة اللبنانية عبر العقوبات وتحريك القرار 1701، لكن تحت سقف تفجير البلد». ويضيف المرجع أن «الحرب التي خيضت على انتصار المقاومة والجيشين اللبناني والسوري على داعش في الجرود، كان هدفها تفريغ هذا النصر من مضمونه. واستخدمت مسألة التسوية مع داعش للتأثير في الداخل العراقي وضرب دور وصورة حزب الله».
يدرك فريق 8 آذار أن «المحور المقابل سيحاول الرّد»، لكن «فريقنا اعتاد المواجهة، والآن هناك طمأنينة كبيرة إلى دور رئيس الجمهورية ميشال عون»، يقول المرجع البارز. أمّا مصادر الميدان، فتؤكّد أن «لدى المقاومة القدرة الكاملة على مواجهة شتى المخاطر، الأرجح أن يبقى التصعيد إعلامياً وسياسيّاً مع غياب أي أدوات عسكرية، إلّا إذا قررت إسرائيل خوض الحرب على لبنان وسوريا معاً، مستغلةً الانقسام العراقي. لكن إسرائيل تدرك أن هذه الحرب غير مضمونة النتائج، وستدفع فيها ثمناً كبيراً. فلننتظر ونر».