منذ انتخاب الرئيس كميل شمعون نائباً في أيلول 1952 اعتمد حتى العام 1954 سياسة خارجية معتدلة مستوحاة من ميثاق 1943 أي منفتحة على سوريا.
كما حافظ لبنان في هذه الفترة على علاقاته الجيدة مع مصر في السنوات الثلاث الأولى التي تلت قيام الثورة المصرية، بالإضافة إلى ذلك أقام الرئيس شمعون علاقة ودية جديدة مع المملكة العربية السعودية.
وإذا كان لبنان قد وقع في العام 1952 معاهدة الدفاع العربي المشترك في إطار جامعة الدول العربية، فإنه ابتداء من عام 1954 «اخذت السياسة الخارجية اللبنانية، تواجه تحديات عديدة على الصعيدين: الدولي والإقليمي، خصوصا في ظل حرص الغرب بعد الفراغ الذي احدثه انسحاب القوات البريطانية من قناة السويس، على إنشاء احلاف عسكرية أبرزها (حلف بغداد) وأعلنت العراق وتركيا استعدادهما للدخول فيه»، والذي انضمت إليه كما يقول يوسف سالم «الولايات المتحدة في ما بعد كدولة مراقبة».
في هذا الوقت بالذات كان الاتحاد السوفياتي يدشن سياسة الانفتاح والتدخل في الشرق الأوسط الذي كان حتى ذلك الوقت حكرا على الغرب، ففي ربيع عام 1955 عقد مؤتمر «باندونغ» الذي كان نجومه.. جمال عبد الناصر، الزعيم اليوغوسلافي جوزيب بروز تيتو، والزعيم الهندي جواهر لال نهرو، فدشن سياسة عدم الانحياز والحياد الإيجابي بين الشرق والغرب، وكان من جرّاء ذلك ان انقسمت الدول العربية على بعضها، فبينما أعلنت مصر وسوريا انضمامهما إلى كتلة عدم الانحياز، أعلنت الأردن والعراق الانفتاح على الغرب، اما الرئيس شمعون، فاختار الانحياز إلى الغرب من دون ان يُمكن من تجسيد هذا الانحياز بدخول حلف بغداد، وفي تموز 1956 امم جمال عبد الناصر قناة السويس، وعزز سياسة التعاون مع الاتحاد السوفياتي بعد ان اختلف مع الولايات المتحدة الأميركية، وفي تشرين الأوّل من نفس العام شُنَّ العدوان الثلاثي على مصر والذي اشترك فيه كل من بريطانيا، فرنسا وإسرائيل بذريعة حماية الملاحة الدولية في قناة السويس، فنشبت أزمة دولية خطيرة جرى تداركها من قبل واشنطن وموسكو، ونظراً لصمود مصر في وجه هذا العدوان، تُعزّز موقع عبد الناصر كرمز للتحرر والثورة.
إبان هذا العدوان دعا الرئيس كميل شمعون إلى مؤتمر قمّة عربي يعقد في بيروت للبحث في ما يجب تقديمه إلى مصر من عون في مواجهة هذا العدوان، فطرح خلال هذه القمة موضوع قطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا فأعلنت مصر والسعودية وسوريا قطع علاقاتها مع الدولتين، واكتفى الأردن والعراق بقطعها مع فرنسا. فيما رفض الرئيس شمعون قطع العلاقات الدبلوماسية مع لندن وباريس. وكما يقول يوسف سالم فقد أبلغ الرئيس شمعون الرئيس المصري هذا الرأي مبرراً بالقول: «ان من الخير ان يظل هنالك رئيس عربي معروف بصداقته للغرب قادراً على الاتصال كل دقيقة بالدول الغربية، وربما باسم عبد الناصر نفسه، وذلك أفضل من ان يكون رسول عبد الناصر والوسيط بينه وبين دول الغرب رجل دولة اجنبياً كالامين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد، أو جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند، وهما الصديقان اللذان عرضا وساطتهما وباشراها منذ وقوع العدوان الثلاثي». بيد ان المفاجأة الكبرى هنا، كانت في إعلان رئيس الحكومة اللبنانية آنئذ، الدكتور عبد الله اليافي، استعداد لبنان لقطع علاقاته بفرنسا وبريطانيا، وهو الأمر الذي رفضه الرئيس شمعون، مما دفع رئيس الحكومة، ووزير الدولة صائب سلام إلى الاستقالة، فاستدعى شمعون، سامي الصلح وكلفه بتشكيل حكومة جديدة، مدشناً بذلك سياسة النزاع مع جمال عبد الناصر.
وهكذا، اطل العام 1957، لنشاهد على حدّ تعبير يوسف سالم: «وطنا منقسما على نفسه» لأنَّ «فريقا من اللبنانيين يرى في كميل شمعون خصماً يجب التخلص منه بأيَّ شكل من الاشكال، ويتلقى هذا الفريق من خارج لبنان كل اشكال الدعم، وفريق آخر يرى في رئيس الجمهورية الرجل العنيد الصامد الذي يرد للطامعين بلبنان الكيل كيلين ولا يكتفي بالدفاع بل يتعمد الهجوم». في هذا الوقت كما يقول ادمون رباط أعلن «الرئيس الأميركي ايزنهاور عن مشروع يقضي بتولي الولايات المتحدة الأميركية تنسيق وسائل الدفاع الغربية في الشرق الأوسط، والتعاون مع الدول العربية للدفاع عن المنطقة ضد الخطر الأحمر، وارسل الرئيس ايزنهاور موفدا عنه، هو المستر جايمز ريتشاردز، لمفاوضة الدول العربية حول هذا الشأن»، فسارعت الحكومة اللبنانية إلى «تبني مشروع ايزنهاور، وكان ذلك دليلاً واضحاً على انحياز الحكم اللبناني إلى الغرب ومقاومته لتيار القومية العربية الذي كان جمال عبد الناصر قد أصبح زعيمه، الأمر الذي اثار حملة سورية ومصرية ضده، ما لبث المسلمون اللبنانيون ان تأثروا بها. وفي 6 آذار 1957 صدر بيان مشترك لبناني – أميركي وقعه عن الجانب اللبناني وزير الخارجية انئذ شارل مالك، يعلن انضمام لبنان إلى المشروع الأميركي، فكان ذلك ايذاناً ببلوغ لبنان نقطة اللارجوع في علاقاته مع مصر…». فكان من شأن ذلك ان يعتبر نسفاً لصيغة الميثاق الوطني التي توافق عليها اللبنانيون عام 1943. وفور تصديق مشروع ايزنهاور في مجلس النواب اضطر لفيف من النواب منهم: صبري حمادة، حميد فرنجية، عبد الله اليافي، رشيد كرامي، أحمد الأسعد ومعروف سعد إلى تقديم استقالاتهم من مجلس النواب بعد ان فشلوا في الحؤول دون إقرار المشروع، فكانت هذه الاستقالة بمنزلة إعلان انفتاح أزمة شديدة وبداية لتجمع المعارضين وتكتلهم، فتشكلت في ربيع عام 1957 جبهة الاتحاد الوطني التي ضمّت العديد من الشخصيات نذكر منهم: صبري حمادة، أحمد الأسعد، حميد فرنجية، حسين العويني، صائب سلام، عبد الله اليافي وفيليب تقلا، وكان من أهداف هذه الجبهة:
– رفض الاحلاف الأجنبية.
– تبني سياسة خارجية محايدة ومستقلة بين المعسكرين.
– مواصلة النضال لتحرير العالم العربي.
– التمسك بالميثاق الوطني وبالتعاون بين المسلمين والمسيحيين.
وعلى حدّ تعبير الرئيس صائب سلام، فإنَّ وقائع وأحداث عام 1957 أسست لأزمة عام 1958، اذ انه في شهر حزيران من عام 1957 جرت الانتخابات النيابية التي رفع بموجبها عدد أعضاء المجلس النيابي إلى 66 بدلاً من 44 نائباً، والتي وصفت بأنها تميزت بتزوير واسع، ويشير مايلز كوبلاند الذي ساعد في العام 1949 في تنظيم وكالة المخابرات المركزية الأميركية، ثم عمل مستشارا أعلى لمؤسسة أميركية كبرى متخصصة في العلاقات الحكومية، وهو قضى القسم الأعظم من حياته العملية في منطقة الشرق الأوسط، يُشير إلى ان السفارة الأميركية في بيروت – وليست وكالة المخابرات – قامت بتقديم مساعدات لبعض الحملات الانتخابية للمرشحين الموالين للغرب».. لافتا ايضا إلى «مساعدات قدمتها السفارات البريطانية والفرنسية والسوفياتية والمصرية للمرشحين الموالين لها».
مع اتساع هوّة الخلاف بين اللبنانيين، كان التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية يتزايد باستمرار، ويؤكد مايلز كوبلاند على ذلك بقوله: «لم تكن مراقبة الأحداث لتقتصر على السفير الأميركي في بيروت وحده (وكان يومئذٍ دونالد هيث سفيرا حتى أواخر 1957، ثم روبرت ماكلينتوك في أوائل 1958)، بل كان يشاركه في هذا عدد كبار المراقبين الرسميين وشبه الرسميين (الذين كانت لهم صفة الاستقلال عن السفير أو كانت تربطهم به مجرّد علاقات شكلية». وكان على رأس هؤلاء ويلبور (بيل) ايفلاند، الذي ارسله البيت الأبيض كمبعوث خاص ليبقى على اتصال وثيق بالرئيس شمعون وليشرف على تنفيذ (مشروع ايزنهاور).
مع إطلالة العام 1958 كان التوتر الداخلي في لبنان قد بلغ مداه، خصوصا مع إعلان الوحدة بين مصر وسوريا في شهر شباط، وإعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة برئاسة جمال عبد الناصر، وكان من شأن هذه الأحداث، كما يقول يوسف سالم: «ان تحدث هزات عنيفة في لبنان حسبت المعارضة انها تخدم اغراضها وتضعف كميل شمعون، لكن شمعون عرف ان يستغلها واستطاع بدهائه ان يجعل نفسه رمزاً للبنان ويحيط رئاسته بهالة».
ان قيام أوّل وحدة بين قطرين عربيين كما يقول باسم الجسر في كتابه: «ميثاق 1943، لماذا كان وهل سقط؟»، «ايقظ آمال الوحدة في نفوس الأجيال العربية التي كانت كارثة فلسطين قد صدمتهم. وكان من الطبيعي ان تتأثر الجماهير الإسلامية في لبنان بهذا الحدث ولا سيما وان الأحزاب العقائدية ووسائل الإعلام المصرية كانت قد وفرت الأجواء الملائمة، وكان من جرّاء ذلك ان ارتفعت درجة التوتر بين الحكومة اللبنانية والقاهرة وان ازداد الانقسام المسيحي – الإسلامي في لبنان هوة».
ويقول يوسف سالم في هذا الخصوص: «وادرك اللبنانيون العقلاء المعتدلون خطورة الحالة وخطرها، وايقنوا ان كميل شمعون لم يبعد عن المجلس أقطاب المعارضة والزعماء السياسيين، الا ليعمل على تجديد رئاسته في خريف العام 1958، كما ادركوا انه إذا استمر اللبنانيون منقسمين هذا الانقسام الذي ينذر بشبه حرب أهلية تعرض لبنان لخطر فادح»، فكان ان حصل اجتماع في منزل النائب والوزير السابق يوسف سالم، حضره إضافة إليه عدد من الشخصيات السياسية منهم: بيار الجميل، هنري فرعون، شارل حلو، غسّان التويني، الدكتور يوسف حتي، بهيج تقي الدين، جورج نقاش، محمّد شقير، جان سكاف، غبريال المرّ ونجيب صالحة، وقرّر المجتمعون الاتصال بالسلطة وأطراف المعارضة واطلقوا على أنفسهم اسم «القوة الثالثة»، غير ان بيار الجميل وشارل حلو سرعان ما استقالا من هذه القوة من دون ان يحددا الأسباب.
بدأت هذه القوة اتصالاتها مع الأطراف المختلفة وكان اللقاء الأوّل مع الرئيس شمعون، وفي هذا اللقاء يقول يوسف سالم الذي تحدث باسم القوة الثالثة: «اعربت – للرئيس شمعون – عن القلق الذي يسود اللبنانيين، وعن مخاطر الفترة التي يمر بها لبنان، وقلت له بصراحة ان من الأسباب التي أدّت إلى هذا التوتر في البلاد هي النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات النيابية».
واضافت: وبعضها يتصل برغبتكم في التجديد ولا يُخفى على فخامتكم ان التجديد يتطلب تعديل الدستور، وتعديل الدستور في هذا الجو المشحون بالقلق أمر شاق فضلا عن انه غير ملائم في الوقت الحاضر.
فأجاب الرئيس بحدة: ومن قال لكم انني اعمل على تجديد ولايتي؟ انا لم أعلن ذلك.
قلت: يكفي يا فخامة الرئيس ان تعلن انك غير راغب في التجديد حتى تهدأ الأمور.
فقاطعني بقوله: لا استطيع ان أعلن ذلك، لانني إذا لم أجد في الميدان مرشحا يستطيع ان يكمل السياسة التي سرت عليها، عند ذلك أرى نفسي مكرها على العمل للتجديد.
فقال جورج نقاش للرئيس: إذا كنت تعتقد انك لن تجد بين المليونين ونصف المليون لبناني من يستطيع ان يكمل سياستك فهذا يعني ان هذه السياسة ليست لبنانية. عند ذلك قال الرئيس شمعون: إذا لم يكن عندكم ما تقولونه غير هذا فقد انتهى الحديث».
ويشير يوسف سالم إلى انه قبل وصول وفد «القوة الثالثة» إلى قصر الرئاسة كانوا قد وضعوا بيانين ليذيعوا أحدهما عند انتهاء الزيارة: الأوّل يعلنون فيه استجابة الرئيس إلى رجائهم باعلانه الرغبة في عدم التجديد، والثاني، ان الرئيس لم يقبل رجاء «القوة الثالثة» ورفض ان يصرّح بعدم رغبته في التجديد. ولما انتهت هذه الزيارة على الشكل الذي انتهت إليه أعلن سالم للرئيس انه سيذيع البيان الثاني، فأجاب الرئيس بغضب: «افعلوا ما اردتم» وفي اليوم التالي صدرت الصحف وفي صدر صفحاتها انباء الزيارة ونص البيان.
وبأى حال، فقد ظلت الأزمة في تصاعدها، وفي الثامن من أيّار 1958 انطلقت كما يقول مايلز كوبلاند: «الشرارة الأولى التي فجرت الصراع كلّه في لبنان» وذلك اثر اغتيال الصحافي المرحوم نسيب المتني صاحب جريدة «التلغراف».
ويؤكد كوبلاند ان كل الأطراف في لبنان كانت مسؤولة عن الحالة التي وصلت إليها البلاد: «فعندما قامت المعارضة بوضع المتاريس عند النقاط الحيوية لمدينة بيروت وسدت منافذ الطرق الرئيسية واغلقت الحوانيت وحفرت الخنادق حول مناطق تجمّعها، كان ردّ أنصار شمعون سريعاً ومماثلاً، وفي غضون بضعة أيام غد لبنان مسرحا لحرب أهلية شاملة شلت البلاد كلها.
ويتناول كوبلاند المعارضين للرئيس شمعون فيقول: «انهم كانوا فئتين: فئة الزعماء الحقيقيين الذين كانوا يمثلون مناطق كاملة اشتهرت بعدائها لشمعون، وفئة الزعماء الذين يغلب طابع الحياة السياسية لمدينة بيروت على انصارهم من الأفراد المنتسبين للاحزاب والجماعات السياسية المنظمة والقبضايات والمريدين. وكان من الفئة الأولى كل من صبري حمادة من سهل البقاع، ورشيد كرامي من دينة طرابلس، وكمال جنبلاط من جبل لبنان وقد طلبوا من المصريين تجهيزات عسكرية ومعدات أخرى حتى يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم.
(يتبع)
وكانت الفئة الأخرى من الزعماء تشتمل (البيارتة الاربعة) وهم: صائب سلام، عبد الله اليافي، عدنان الحكيم، عبد الله المشنوق، ولم يكتف هؤلاء بطلب التجهيزات العسكرية بل ألحوا في طلب المساعدات المالية بغية توفير الدعم والتأييد. وكان لهم ما أرادوا لأنَّ «الداعمين» ساندوا بقوة «البيارتة الاربعة» حتى يتمكنوا من استقطاب الاحياء الشعبية في المدينة ليسهل بالتالي، التحكم بالمنطقة الرئيسية في لبنان، الا وهي مدينة بيروت نفسها.
وإذا كانت المعارضة قد حشدت كل قوتها لإسقاط حكم الرئيس كميل شمعون ومنع التجديد له، فإنَّ المسؤولين الغربيين لم يتوحدوا على موقف من التطورات، ويقول مايلز كوبلاند في هذا الخصوص: «بقي المسؤولون الغربيون فترة من الزمن هائمين على وجوههم وسط زحام الأحداث في لبنان لا يدرون ماذا يفعلون، كما بقيت جهودهم دون تنسيق وآراؤهم دون توحيد. فلم تعد تدري من يسير دفة الأمور ويمسك بزمام الموقف، فقد أيد السفير ماكلينتوك فكرة التجديد للرئيس شمعون، الا انه سرعان ما عدل عن رأيه هذا إلى آخر معاكس له تماماً، وبذلك أضحى السفير على خلاف في الرأي مع كل من بيل ايفلاند، ووكالة المخابرات المركزية الأميركية ومعظم طبقة رجال الأعمال الأميركيين الذين اصروا على فكرة التجديد وتمسكوا بها.
ويؤكد كوبلاند ان «اميل بستاني – يصفه بمقاول مليونير مسيحي – وفوزي الحص – يصفه ايضا بمقاول مليونير مسلم – وهما يتمتعان بثقة رجال الأعمال الغربيين واحترامهم، بحثا معي إمكانية التوسط لدى الرئيس جمال عبد الناصر لما بيني وبينه من صداقة وحسن صلة لإيجاد حل مناسب للأزمة اللبنانية يسمح لكل من المصريين والاميركيين بسحب تأييدهم (للبيارتة الاربعة) ولحكومة شمعون، كما ان على الحل المناسب ان يترك الباب مفتوحا على مصراعيه امام العناصر المعارضة لشمعون والمؤيده له للتوصل إلى تسوية سلمية بينها لإنهاء الصراع، وإنقاذ ما تبقى من البلاد من الخراب والدمار».
ويؤكد كوبلاند بقوله: «كان لي اتصال سابق مع كلا الرئيسين شمعون وناصر، وذلك قبل ان تتفاقم الأحداث وتبلغ الأزمة ذروتها في لبنان، وبعدها لمست استحسان إحدى كبريات شركات البترول لفكرة الوساطة (وكان ذلك في حزيران/ يونيو) عزمت أولاً على مفاتحة الرئيس شمعون بالفكرة، ومن ثم الرئيس عبد الناصر، ولم يكن جل همي في البداية ترويج الفكرة والدعوة لها بقدر ما كان الوقوف على مدى استعدادهما للتجاوب مع الفكرة.
ويواصل مايلز كوبلاند سرد روايته فيقول: «وتحت ضغط فوزي الحص واميل بستاني، غادرت بيروت إلى القاهرة، وقصدت ناصر للاجتماع به بعد تبادل سريع للآراء مع سفيرنا هناك ريموند هير، وكنتيجة لمقابلتي ناصر وسفيرنا، قدم ناصر إلى السفير اقتراحاً جاء فيه: «لما كانت كل من الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية العربية المتحدة تمثلان الطرفين الخارجيين اللذين لهما علاقة بالأزمة اللبنانية، فإنني لا أرى مانعاً في عقد اجتماع يضم الطرفين، وذلك للتوصل إلى اتفاق حل يفرضانه على اللبنانيين، الا ان السفير هير ردّ على اقتراح ناصر (بعد تبادل الرأي مع واشنطن) بجواب تعمد فيه إساءة تفسير اقتراح ناصر وجاء فيه (انه من دواعي سرور حكومة الولايات المتحدة ان تبذل قصارى جهدها للتوسط في النزاع بينك وبين الرئيس شمعون»، الا ان ناصراً، الذي اعتاد ان يوقع السفراء الأميركيين في شركه، دون تذمر أو احتجاج منهم، تضايق من هذه المكيدة التي دبرها السفير هير، وعندما اجتمعت به احسست انه ما زال يُعاني من وخزها، ومع ذلك فقد اسهب ناصر في شرح آرائه حول الأزمة اللبنانية لينتهي اخيرا إلى القول، انه لو كانت الأزمة اللبنانية تخصه وحده دون سواه، فأنَّ ما يفعله هو تنصيب الجنرال فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية ورشيد كرامي رئيسا للوزراء. واختتم ناصر الاجتماع معقباً: لو ان الأمور بقيت على حالها فلا بدّ من الوصول بها إلى نهاية ما، نشهدها بأم أعيننا ونرعاها بأيدينا، ولن يوقف أحد من دعمه للأطراف الموالية له، وستبقى مصر لحلفائها، وستبقى الولايات المتحدة لأعوانها».
ولدى عودة كوبلاند إلى بيروت يقول: «وجدت ان هناك عملية ضخمة كانت في طور الإنجاز والتنفيذ، فقد قامت مجموعة اغنياء المسلمين اللبنانيين تحت اشراف فوزي الحص بالاسهام في مجهود مشترك لشراء الأنصار من حول (البيارتة الاربعة) تخفيفاً لحدة التوتر. كما تطوع رئيس مجلس النواب آنئذٍ عادل عسيران للتوسط بين المعتدلين من أنصار شمعون والمعتدلين من معارضيه، واثناء غيابي عن بيروت، اخبر السفير الأميركي الرئيس شمعون ان الأدلة على تدخل الجمهورية العربية المتحدة لم تكن مقنعة ولا حاسمة، كما ان مراقبي الأمم المتحدة لم يعثروا على أي دليل لهذا الغرض ولهذا فإنَّ نزول القوات الأميركية في لبنان أمر غير وارد البتة. وهكذا صبح الرئيس شمعون مثبط الهمة، وغدت فكرة التوصّل إلى تسوية النزاع أكثر احتمالا واقرب منالاً».
ويؤكد باسم الجسر «ان الحكومة اللبنانية تقدمت بشكوى لدى مجلس الأمن ضد الجمهورية العربية المتحدة متهمة إيّاها بمساعدة الثوار وبالتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، فأرسل مجلس الأمن فريقاً من المراقبين للتأكد من صحة الشكوى، وجاء تقريرهم لا يُؤكّد ولا ينفي وجود التدخل.
وتقدمت الحكومة اللبنانية بشكوى ثانية امام مجلس جامعة الدول العربية، دون ان تحظى بنتيجة.
عندئذٍ طلب الرئيس شمعون تدخل أميركا العسكري والذي حدّد اسبابه بخمسة هي:
1 – المساعدة التي تقدمها جهات خارجية للثوار.
2 – ان الشكوى إلى جامعة الدول العربية لم تعط أي نتيجة.
3 – ان مراقبي الأمم المتحدة لم يقوموا بأيِّ عمل.
4 – ان مجلس النواب اعطاني في جلسته المنعقدة في 16/1/1958 تفويضاً بالقيام بأيِّ عمل يضمن استقلال لبنان وسيادته وترك له حرية اختيار الظرف المناسب للتنفيذ.
5 – ان قيام الثورة في العراق في 14 تموز 1958 كان من شأنه تشجيع الثوار على الاستيلاء على الحكم في لبنان. وهنا، يقول شمعون، استدعيت سفراء أميركا وبريطانيا وفرنسا وطلبت تدخل الأسطول السادس.
لم تستجب واشنطن في البدء لطلب شمعون بإنزال قوات البحرية الأميركية، ولكن قيام ثورة 14 تموز عام 1958 في العراق وسقوط النظام الملكي، جعل واشنطن تستجيب لطلب الرئيس شمعون وانزلت قوات المارينز على شواطئ بيروت تنفيذاً «لمبدأ ايزنهاور» وقد صرّح الرئيس ايزنهاور آنئذٍ، انه لم يفعل ذلك الا تلبية لنداء رئيس الجمهورية اللبنانية».
ويؤكد يوسف سالم انه عندما نزلت البحرية الأميركية على الشواطئ اللبنانية، حاول الجيش اللبناني التصدّي لها ومنعها، وكاد يقع اصطدام بينه وبينها لولا تدخل السفير الأميركي مع قائد الجيش اللبناني، والتأكيد له ان القوات الأميركية ليست آتية للاحتلال بل لضمان سلامة لبنان، وانها ستنسحب كما جاءت، عندما تطلب الحكومة اللبنانية ذلك.
يذكر أيضاً، ان قوات الأسطول الأميركي السادس طلبت احتلال تلة الخياط بعد نزولها إلى الشواطئ اللبنانية، لاعتقادها بأن القوات الشعبية المتمركزة في ذلك الموقع الحصين تشكّل خطرا على القوات الأميركية، لكن اللواء جميل لحود، وكان قائدا لموقع بيروت رفض مداهمة تلة الخياط بالقوة، وكان فيها المئات من الشباب اللبناني بقيادة محمّد كنيعو (كان وزيرا للداخلية في حكومة الحاج حسين العويني عام 1964)، تجنباً لسفك الدماء… وعالج الموضوع بحكمة وروية طبقا لوطنيته وبعد نظره متجنباً وقع كارثة في العاصمة، فيما كان الجيش قام بضرب مواقع الثوار.
وبعد ان قام بمحادثات على الصعيد العسكري، واتصل بقيادة الأسطول السادس، وبقيادة المقاومة الشعبية المتمركز في تلة الخياط، مستعملاً كل ما عنده من حكمة وقوة إقناع على ضوء مصلحة البلاد العليا، وتجنيب استعمال الجيش لسلاحه ضد المواطنين، واخيرا توصل إلى إقناع الطرفين بالموافقة على ارسال قوات رمزية من الجيش اللبناني إلى تلة الخياط، تمركزت إلى جانب المواطنين الثائرين، فاطمأن الأسطول الأميركي إلى سلامة افراده، وتجنب الضرب وسقوط الضحايا.
بعد تسارع الأحداث على النحو الذي ذكرنا أوفد الرئيس الأميركي ايزنهاور مساعده روبرت مورفي إلى لبنان، الذي اجتمع مع كل الأطراف. وتدارس الموقف معهم، ودس كما يقول يوسف سالم «اثناء حديثه سؤالاً عن الرجل الذي يستطيع فيما إذا تولى الحكم، ان يُعيد الأمن والطمأنينة إلى لبنان ويقضي على الفتنة» فكان إجماع المعارضة على رفض تجديد الولاية لشمعون، وفهم من حديثهم ان اسم الجنرال فؤاد شهاب مقبول».
وزار مورفي «شمعون ونصحه بأن لا يفكر في التجديد حتى لا يقال انه استعان بالجيش الأميركي ليجدد الرئاسة لنفسه، فأعرب له الرئيس شمعون عن خيبة أمله في اصدقائه الغربيين وفي طليعتهم الأميركيين» وقال له: «اني احصد ثمار موقفي معكم ضد الشيوعية، وها انتم الآن تقفون مع المعارضة ضدي».
واجاب مورفي، كما يُؤكّد يوسف سالم، جواباً قاطعاً بقوله: «لا تجديد، وإنما نترك لك يا حضرة الرئيس ان تفكر في الأمر، ويبدو لي، بعد ان درست الموقف، ان اللواء فؤاد شهاب هو اصلح المرشحين في هذه الفترة العصيبة التي يمر بها لبنان».
قبل كميل شمعون باللواء شهاب على مضض، لكنه اشترط ان يظل في الرئاسة إلى آخر دقيقة من ولايته، مهما كلف الأمر، ومهما كانت الظروف.
وفي 4 آب 1958 تمّ انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وهو انتخاب وصف بأنه تمّ بعد توافق إقليمي – دولي، وبصفة خاصة مصري – أميركي، والتي يصفها مايلز كوبلاند بأنها جاءت مطابقة، لما كان يريده جمال عبد الناصر.