ظلّ النظام السوفياتيّ يقدّم إنجازات للروس ولبقية الشعوب السوفياتيّة إلى أن أسقطته تلك الشعوب ومزّقت دولته.
هذا هو الانطباع الذي يخرج به قارئ بعض الاحتفاليّات العربيّة بمئويّة ثورة أكتوبر 1917. أمّا الإنجازات التي ثار الشعب ضدّ كثرتها وأسقطها، فلا تنتمي إلى عالم الأرقام، تبعاً لندرة الأرقام التي تدعم فكرة الإنجازات. إنّها تنتمي إلى عالم القبائل: ذاك أنّ النظام الذي أنشأه لينين وتروتسكي، ووطّده ستالين، «تحدّى» الإمبرياليّة. «أفشل» و «أسقط» و «هزم» وانتصر لـ «الكرامة»، ثمّ ولّى غير مأسوف عليه.
ونعرف، في جوارنا السوريّ القريب، كيف عمل هذا «النهج»، ولا يزال يعمل، بكفاءة منقطعة النظير: صحيح أنّ حافظ الأسد خسر الأرض وصادر الحرّيّات وأفقر المواطنين، إلاّ أنّه أيضاً تحدّى الإمبرياليّة والصهيونيّة. ومثله كانت حال صدّام حسين في العراق، وقبلهما جمال عبد الناصر في مصر. الأرقام تافهة. التحدّي هو الأساس. النتائج لا قيمة لها، وكلّ القيمة للمقدّمات.
من الظلم أن نُحيل إلى ثورة أكتوبر ونظامها هذه الظاهرات العربيّة والعالمثالثيّة الكثيرة التي تبقى مجتمعاتها مصدر تطوّراتها الأبرز والأهمّ. لكنْ من غير الظلم أن نقول إنّ ثورة أكتوبر ونظامها، وطريقتهما في محاكمة الأمور، إنّما رفدت الظاهرات العربيّة والعالمثالثيّة المشار إليها: رفدتها بتحديث كذبها وتحويله إلى «علم». فالسيّد روبرت موغابي، مثلاً، وهو الذي انقلب عليه الجيش قبل ثلاثة أيّام ووضعه قيد الإقامة الجبريّة، لم يقل عند تخلّصه من خصومه السياسيّين إنّه يريد تحكيم قبائل الشونا التي ينتمي إليها، ويريد تحويل نفسه إلى مستبدّ مطلق. لقد زعم أنّه كـ «ماركسيّ– لينينيّ» و «ممثّل للطبقة العاملة» أشدّ تقدّماً من خصمه آنذاك جوشوا نكومو لأنّ الأخير «رجعيّ». وهذا علماً بأنّ نكومو، النقابيّ والقائد التاريخيّ للحركة الوطنيّة في روديسيا/ زيمبابوي، لم يخسر المنافسة بسبب «رجعيّته»، بل لأنّ قبيلته، النديبيلي، أصغر وأضعف من الشونا. وبالطبع يمكن أن نضع في خانة موغابي أسماء كثيرين، كعبد الفتّاح إسماعيل في اليمن الجنوبيّ مثلاً، فيما نضع في خانة نكومو اسم عبدالله الأصنج أو قحطان الشعبي، من دون أن يطرأ على المعادلة الأكتوبريّة تغيّر يُذكر.
وعلى هذا النحو حكم موغابي بلده منذ 1980 كرئيس حكومة، ومنذ 1987 كرئيس جمهوريّة، فعقّمها سياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً تماماً. وانتهى بها المطاف، وهو اليوم في الثالثة والتسعين، ساعياً إلى توريث زوجته السيّدة غرايس، تماماً كما ورّث «الرئيسان المناضلان» كيم إيل سونغ وحافظ الأسد نجليهما كيم جونغ إيل وبشّار الأسد.
ولأنّ كلّ شيء قابل للإباحة بحجّة مناهضة الإمبرياليّة والاستعمار، تمكّن موغابي من أن يفعل كلّ ما فعله بمجتمعه. هكذا لم يعد هناك، في هذا المجتمع المعقّم، مَن يزيحه إلاّ الجيش، علماً أنّ التجارب الكثيرة مع الانقلابات العسكريّة لا توحي بالتفاؤل. فقد يزاح موغابي ويبقى شيء كثير من الموغابيّة، تماماً كما أزيح نظام أكتوبر الروسيّ وبقي شيء منه في فلاديمير بوتين. ذاك أنّ تحديث الكذب واستخدامه منشاراً يستأصل حيويّة المجتمع إنّما يخدمان طويلاً وكثيراً. فباسم تلك الشرعيّة التي أسّستها ثورة أكتوبر (بالأحرى، انقلاب أكتوبر) يُزوّر الماضي ويُهان الحاضر ويُعلّق المستقبل في آن!