كل ما أعقب استقالة الرئيس سعد الحريري من تحليلات وتوقعات، في الداخل اللبناني وفي الخارج العربي والدولي، لم يصل في ذروة اجتهاده الى مستوى هذا العقل المحنّك مع كثير من الدهاء، لهذا الثنائي القيادي في لبنان: رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس المجلس النيابي الأستاذ بكل معنى الكلمة نبيه بري. وأكثر تلك التوجهات تفاؤلا لم يذهب الى أبعد من توقع حكومة تصريف الأعمال حتى حلول موعد اجراء الانتخابات النيابية. وأكثرها تشاؤما ذهب الى حدّ توقع حرب عالمية على لبنان تزيله عن الخريطة بكل من وما فيه! واذا كان لكل ساعة ملائكتها، فان ساعة ملائكة الوفاق سبقت ساعة ملائكة الشقاق قبل طلوع فجر يوم عيد الاستقلال، واستند العقل الخلاّق الى سوابق نادرة في التاريخ اللبناني الحديث تقوم على فكرة التريث في تقديم الاستقالة، وتكون هي المرحلة الثانية في امتصاص الآثار السلبية، بعد نجاح المرحلة الأولى في تطويقها واستيعابها.
ما فعلته القيادة اللبنانية في نهج الأمن الاستباقي ونجحت في تحصين لبنان أمنيا ضد الارهاب المتوحش، كرّرت فعله في الأمن السياسي الاستباقي. وهذه القيادة التي لم ترتجف ولم تهتز ولم تصطك ركبتاها منذ اللحظة الأولى لانفجار دوي الاستقالة الصادمة، سابقت الوقت، واستثمرت كل ساعة فيه لتجعل من الفترة الممتدة، بين مغادرة الحريري للبلاد وعودته اليها، ثمانية عشر يوما من التاريخ، تقدم مثالا مشرقا أمام العالم. ولم يكن ذلك ممكنا إلاّ مع تقاطع الارادات على صون لبنان ووحدته الوطنية، وكانت هي القاسم المشترك بين الرؤساء الثلاثة عون وبري والحريري الذي أظهر شجاعة نادرة في القول والفعل. وهو بذلك يقود تيارا خارقا للطوائف ولتيار المستقبل نفسه، يعمّق موقعه عموديا وأفقيا في العائلة الروحية التي ينتمي اليها، وعلى المستوى الوطني العام، وعربيا وخارجيا. وتؤازره نخبة من تياره بأسماء غير قابلة للحصر، وان كان ما يبرز بينها ما أظهره الوزير نهاد المشنوق من عنفوان وطني في ساعة الحشرة التي يغيب عنها الآخرون!
كانت الخيارات متعددة أمام الرئيس سعد الحريري، وكان أسهلها الفرار والاستسلام للأمر الواقع. وكان في استطاعته التحصن بمقولة: عند تغيير الدول احفظ رأسك، ولكنه اختار عند تغيير الدول ان يحفظ رأس الوطن لبنان. واستبعد من فكره وخياره الموقف الغوغائي القائل: يا شباب ويا صبايا يلّلا نهجم عَ السرايا! وهو بذلك يتناغم مع الحسّ الوطني العام الذي تجلّى بأبهى صوره في خلال هذه الأزمة التي كانت تنذر بزلزال سياسي مدمّر، وعبّر عنه منذ اللحظة الأولى لاندلاع شرارتها الرئيس عون والرئيس بري في موقف شجاع تميّز بالدهاء. ومعنى الدهاء قاموسيا هو الفطنة والحذاقة والتبصر بالأمور وسداد الرأي… وكما جاء في معجم اللغة العربية المعاصر: ينبغي لرجل الدولة أن يتميّز بالدهاء السياسي!
… والآن، ماذا بعد التريث؟ لبنانياً، سيكون ما بعد التريث هو مثل ما قبله، أي تلاقي الرؤساء الثلاثة والغالبية المؤثرة من الكتل النيابية والرأي العام اللبناني، والانتقال من مرحلة ربط النزاع الى مرحلة ربط الحلول! وكما قال الرئيس سعد الحريري في خطاب معلن: النأي بالنفس ينطبق على الجميع بما فيه التيار الذي يقوده. ولهذا القول معنيان: في الشكل وفي المضمون. في الشكل يعني التوقف عن تبادل التراشق بالتهم، ويحترم كل طرف توجهات الطرف الآخر، ويبعدها عن البازار السياسي، فلا يسيء الى الجهات التي يحترمها ويتعاون معها كل طرف. وهذا ممكن التحقيق، كما بدا واضحا من خطابات التهدئة والرغبة في الحوار بهدف تجاوز الصراع على حافة الهاوية…
في المضمون، ينبغي تحديد معنى النأي بالنفس على الصعيد العملي، ولبنان، كما هو معروف، يعتمد نظاماً ديموقراطياً برلمانياً يقوم على احترام الحريات العامة كما نصّ عليها الدستور المكتوب. ولبنان ليس بلداً يقوم فيه نظام حكم الفرد مطلق الصلاحية. وهذا يعني ان السياسة العامة التي تعتمدها الحكومة بالاستناد الى ثقة برلمان منتخب من الشعب، يلزمها هي بكل مكوناتها رئيساً ووزراء، ولكنه لا يلزم الكتل السياسية التي منحتها الثقة والتي تحتفظ بحقها وحريتها في توجهاتها السياسية. وبهذا المعنى، فان النأي بالنفس ملزم لرئيس الحكومة والوزراء أولاً وأخيراً. وما حدث داخل الحكومة قبل أزمة الاستقالة كان يمكن وصفه في نظر البعض بأنه خروج على النأي بالنفس، والحل يكون بضبط هؤلاء، وهذا ممكن!
في واقع الحال، ان احداً في لبنان، قيادة وزعماء وشعباً، لا يريد الا ان تربطه أصدق العلاقات وأصفاها مع عمقه العربي وبخاصة مع الدول الخليجية. والقادة الخليجيون لديهم تراث من التعامل الأخوي الحار والودود والداعم للبنان، وفي المقدمة المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة والكويت. وعندما تتوتر العلاقات بين الدول فانها تبادر الى سحب سفرائها للتشاور، في حين أن المملكة، وفي هذا الظرف العصيب، توفد سفيرها الجديد وليد محمد سالم اليعقوب الذي يستعد لتقديم أوراق اعتماده الى رئيس الجمهورية، وسبقته تلك المبادرة الموحية بالتهنئة المزدوجة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الى رئيس الجمهورية للتهنئة بعيد الاستقلال، وفي ذلك ما يبشر برأب الصدع وزوال الغيمة، كما يقال في التراث العربي!