IMLebanon

من المنامة إلى بيروت: القمة الخليجية ومستويات التصدي لإيران

ترتكز القمة الخليجية المنعقدة في المنامة الى معطى أساسي، اذ لم تكن دول مجلس التعاون متجانسة بهذا القدر، على صعيد سياساتها الخارجية، وسياساتها الدفاعية والأمنية، قدر ما هي عليه اليوم. هذا مع ملاحظة معطى مقابل، يتمثل بارتفاع حجم ومستوى ومدى «المد الإيراني» بشكل لم يسبق له مثيل، وبهذه الحدّة والشحن المتواصل من قبل نظام الملالي والحرس الثوري، وانشراحهما البادي، بأنّهما توصّلا، أو هما بصدد التوصل، لتفاهم مع الدول العظمى، الغربية والشمالية، أي دول «الاستكبار العالمي» كما كان ينعتها الامام الخميني، ليس فقط الى اتفاق نووي، بل ايضاً على التسليم بالنفوذ الايراني في مجموعة من البلدان العربية، بل على مستوى كل «عرب الشرق الأوسط».

كان الشاه محمد رضا بهلوي يحاول في ما مضى، فرض نفسه كشرطي الخليج، والتعامل بهذه الروح الهيمنية مع سلطنات الخليج واماراته. لكن نظام الملالي اليوم موجود في وضعية مختلفة: لم يستطع تسجيل اختراق نوعي في جدار منظومة مجلس التعاون الخليجي، لكنه استفاد في المقابل، من «خردة» الأنظمة الجمهورية الثورية، في العراق وسوريا واليمن، كل واحدة باعتبار معين. في العراق، بـ«تعبئة الفراغ»، بعد سقوط النظام البعثي بفعل التدخل الأميركي. في سوريا، بمنع النظام البعثي من السقوط، والتدخل الحربي لإنجاده. وفي اليمن، بجمع الضدين، بقايا النظام السابق والمتمردين المزمنين عليه في شمال البلاد، ومحاولة وضع اليمنيين جميعا، بل العرب جميعا، امام الامر الواقع، بالسيطرة على صنعاء اولاً ثم تعز، ثم التقدم باتجاه عدن، الأمر الذي أوجب اطلاق التدخل لدعم الشرعية الرئاسية، في تحالف تقوده السعودية، لكن تلحظ فيه مشاركة الدول الخليجية الأخرى بشكل نوعي، وحيوي، ومثابر.

بمعنى آخر، كل البلدان المحيطة (او القريبة) بدول مجلس التعاون – باستثناء الأردن – هي عرضة اليوم اما لامتداد النفوذ الايراني، واما لصراع بين هذا النفوذ وبين نقائضه المحلية، المدعومة بشكل أو بآخر من دول مجلس التعاون. هذا في حين تظهر دول التعاون نفسه بشكل تعاضدي، تكاتفي، غير مسبوق الى هذه الدرجة من قبل، ولا تظهر فقط كقوى محافظة، معنية بالحفاظ قدر الإمكان على الأوضاع القائمة، في مواجهة المد الايراني، وانما كقوة حيوية مضادة تعمل لإرجاع هذا المد على أعقابه، وللاستفادة من هذه المواجهة الشاملة لأجل تحديث أطر التعاون في ما بينها، والتحريك باتجاه قيام الصيغة الإتحادية، والتحريك أيضاً في اتجاهات تحديثية، كي تكون المواجهة ضد التوسع الايراني مواجهة من موقع متمسك بتصور آخر عن العالم، تصور نقيض لمنطق الثورة الباسدارانية الدائمة، لمنطق تفريخ أمثال «حزب الله» و«الحوثيين» و«الحشد الشعبي» هناك وهناك، منطق تفخيخ الكيانات الوطنية القائمة بدلاً من استصلاحها، وهنا بيت القصيد.

قبل الانتفاضات الشعبية العربية، كان يمكن ان يقال ان ثمة محوراً للاعتدال وآخر للممانعة، أما اليوم فثمة منطقان: واحد يراوح بين تفخيخ أو تخريب فكرة الكيانات الوطنية القائمة، سواء بحجة أممية مهدوية، أو أممية جهادية، أو بالتذرع بدور الاستعمار في رسم هذه الحدود، أو لاعتبارها غير واقعية، أو غير طبيعية. وهناك منطق لا يستحسن الذهاب الى المجهول، خصوصا انه مجهول مستثمر ومدار من جهة معروفة، هي امبراطورية ميليشيات الحرس الثوري الايراني. لا يعني هذا ان هذه الكيانات من دون مشاكل بنيوية، قسم أساسي منها يرجع لتركة كولونيالية، وقسم آخر لمكابرة مزمنة على التعددية الدينية والاثنية والمناطقية داخلها وأشكال عيش وتنظيم هذه التعددية، لكنه منطق يرتئي استصلاح هذه الكيانات، في اطار تطوير وتحديث نماذج الدولة القائمة فيها، وقاعدة المشاركة والمشاورة في كل منها، وكذلك السياسات الدفاعية والخارجية التي توحي بأننا أمام دول وليس أمام «عصائب» كـ«حزب الله» و«الحوثيين» و«عصائب أهل الحق».

لبنانياً، ليس بالمستطاع اغفال المشكلة التي نحن عالقون فيها، بفعل جموح «حزب الله» وتبرئته سلاحه من أي حاجة لإجماع وطني حوله، وضربه عرض الحائط بمرجعية الدولة في الحرب والسلم، وانتقاله للمحاربة في سوريا، وتحريضه ضد دول عربية بعينها، وتدخله في شؤونها كما لو كان «قاضي قضاة المنطقة». بالتوازي، لبنان حالة معقدة من الصراع بين منطق استصلاح الكيان الوطني وبين منطق تحميله فوق اللازم، وما لا يطاق، وانهاكه وتخريبه. خصوصية لبنان تتمثل الآن في كون هذا الصراع بين قوى استصلاح الكيان والاجتماع فيه وبين القوة الوحيدة فيه المتوترة جدياً بازاء الكيانية اللبنانية، هو صراع تستوعبه الى حد كبير المؤسسات الدستورية، ويشل في نفس الوقت هذه المؤسسات، بحيث يبحث في «تسهيل حركتها»، الواحدة بعد الأخرى، ضمن شروط وتسويات، عسيرة وعويصة، وملتبسة حكماً كل مرة.

يبقى ان ثمة اطاراً جامعاً لهذا الصراع بين استصلاح الكيانات وبين استباحتها، من المنامة الى بيروت.