IMLebanon

من عبد الناصر  إلى عبد الله بن عبد العزيز

عندما قرر الرئيس جمال عبد الناصر (الذي صادفت هذا الشهر الذكرى السابعة والتسعين لميلاده) التنحي وإعلان مسؤوليته عمّا أصاب مصر جرَّاء هزيمة الخامس من حزيران 1967 في إطلالة تلفزيونية وإذاعية قصيرة، فإن الصدمة عقدت ألسنة المصريين الذين بعد ساعات قليلة من إنهاء عبد الناصر كلامه نزلوا بالألوف إلى الشوارع في العاصمة والمدن المصرية رافضين بعبارات أطلقتْها الحناجر تنحِّي رئيسهم على رغم أن الهزيمة حدثت وكانت قاسية. ولكنه بإقراره تحمُّل المسؤولية جعل المصريين المصدومين من هوْل الهزيمة يرون في خطوته صدْق مكاشفة وعلى هذا الأساس فإن بقاءه ضمانة لمصر. أما هو فإنه كان بعدما أنهى قراءة بيان التنحي بنفسه إعتبر المسألة منتهية مسجلاً في أدبيات الحٌكْم في العالم الثالث أمراً غير مسبوق سواء لجهة إعتراف الحاكم بالمسؤولية على نحو ما فعل (أي عبد الناصر) وكذلك لجهة التكبش بالسلطة على رغم ما إقترفه من قرارات وإجراءات إستهدفت البشر والحجر كما فعل غيره، ولنا في المشهد السوري البشَّاري أوضح دليل على ذلك.

وعلى نحو ما روى لي رفيق تجربته والشاهد النزيه على هذه التجربة الأستاذ محمّد حسنين هيكل، فإن عبد الناصر تناول بعد إلقاء البيان حبة منوِّم لأنه كان في حالة نفسية صعبة مثلثة الدواعي: الوضع الصحي. الهزيمة. التنحي الإختياري. وفيما هو مستغرق في النوم بفعل حبة المنوِّم كانت الجماهير التي أشرنا إلى تحرُّكها العفوي تواصل التجمع وتتواصل حناجر البعض تطالب عبد الناصر بالبقاء وتطالب في الوقت نفسه زكريا محيي الدين الذي إستقر رأي عبد الناصر على أن يواصل من بعده على أساس أنه أقدم الباقين من أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952برفض الترؤس. ومن مظاهر التعبير الشعبي عن رفْض الحشود المصرية بعفوية لمسألة التنحي ولإختيار زكريا محيي الدين، أن وزير الإعلام الأسبق محمّد فائق رُمي بالحجارة وضُرب وهو في طريقه إلى منزل عبد الناصر وذلك لأن البعض عندما رأوه إعتقدوا أنه زكريا محيي الدين نتيجة الشبه إلى حدّ ما بينهما خصوصاً لجهة الصلع في الرأس والتسريحة لما بقي من الشَعْر (هيكل أيضاً روى لي الواقعة).

يوم التنحي كان الجمعة 9 حزيران 1967 (رابع أيام الهزيمة). وفي اليوم التالي (السبت 10 حزيران) عاد عبد الناصر عن قراره مستجيباً لمطالب المسيرات الشعبية وبدأ على الفور إعادة  بناء القوات المسلحة رابطاً البقاء بإستفتاء شعبي ودخلت مصر على يديه مرحلة إزالة آثار العدوان التي شكَّلت القمة العربية الإستثنائية في الخرطوم (أيلول 1967) حالة تدعيم نوعي لتلك المرحلة بفعل وقْفة تتسم بالنخوة من جانب الملك فيصل بن عبد العزيز (رحمة الله عليه) شاركت فيها الكويت وليبيا. ومن الجائز إعتبار الإستقبال المتميز من جانب الشعب السوداني وكذلك حنكة الرئيسيْن إسماعيل الأزهري ومحمّد أحمد محجوب شكَّلا موجبات تحفيز لتحقيق نتائج وقرارات نوعية داخل أروقة «فندق السودان» حيث تنعقد أهم القمم العربية من دون أي مظاهر أُبهة وفخامة لجهة مكان الإنعقاد ومقر إقامة الملوك والرؤساء مما يعني أن النجاح لأي قمّة هو بالنوايا الطيبة وشعور المواطن بمصداقية ووطنية ونخوة القادة المجتمعين، وبالقرارات النوعية التي يتخذها هؤلاء.

بعد أقل من ثلاث سنوات لقي عبد الناصر وجه ربه.

ولمجرد أن أُذيع نبأ وفاة عبد الناصر الذي كان علاجه دون ما يجب أن يكون عليه العلاج، تكررت الصدمة في النفوس وحدث نوع من الذهول للملايين من المحيط إلى الخليج عند سماع نبأ وفاة عبد الناصر وهو في الثانية والخمسين، وكانت الجنازة المليونية وذرْف الدموع عليه.

هذا الذي حدث من جانب شعوب الأمة لعبد الناصر لم يحدث لأي حاكم عربي من بعده، إلى أن تجدَّد بعد 48 سنة وبدا واضحاً في ما رأيناه في دول الأمتين العربية والإسلامية يوم الجمعة 23 كانون الثاني 2015 عندما إستقبل الملايين من أبناء الأمة وليس فقط الشعب السعودي نبأ رحيل الملك عبد الله بن عبد العزير بالحزن إنما بغير النزول إلى الشوارع والساحات لأن الأمر يختلف عمّا كانت عليه دوافع التعبير قبل 48 سنة (يوم السبت 10 حزيران 1967 كرد فِعْل على قرار التنحي) ثم بعد ذلك بثلاث سنوات (عند تشييع جنازة عبد الناصر يوم الثلاثاء 29 أيلول 1970) فقد كان كل مواطن يلقى أخاً أو صديقاً يبادره بعبارة «عظَّم الله أجرَّكم» أو «البقية بحياتكم» أو «رحمة الله عليه يغادرنا في الزمن الصعب» وعبارات كثيرة تقال في مناسبات فقدان عزيز.

أن يعزي المواطن العربي من لبنان إلى الأقاصي المغاربية وبينهما الديار المصرية والأردنية والفلسطينية والسودانية والعراقية والخليجية نفسه وبني قومه بوفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، عدا قلة في نفوس أصحابها ضغائن وفي أدمغتهم بقايا عملية شحن شريرة للنفوس وغسْل منقوص النوايا الطيبة، فهذا يعني أن هذا المواطن يُميّز بين الحاكم المخلص لدينه وأمته والحادب على شعبه وبين الحاكم الذي يستعذب إيذاء الوطن والشعب وتدمير البنيان ومصافي الثروة ومن أجل ماذا؟ من أجل سلطة لم تدم لغيره لكي تدوم له. كما أن هذا الحزن العربي الشامل والمحترم ما دام حبيس الوجدان أو مجرّد كلمات من الترحم، ناشئ عن أن سنوات المحنة العربية غدت تعمّق مشاعر القلق على الأوطان والأجيال وأن الملك عبد الله بن عبد العزيز كان في سنوات قيادته يحاول بكل المبدئية والنخوة والأصالة العروبية إختصار هذه المحنة قدر المستطاع وكل ذلك من أجل أن تبقى أوتاد الخيمة العربية ثابتة فلا تتهاوى، وهذا كان وارد الحدوث لولا المساعدة على إنتزاع مصر من مفاعيل شراهة التنين الإخواني وإبقاء الجمع الخليجي على تماسكه فلا يتبعثر تحت تأثير تنويمات إخوانية – قرضاوية – أردوغانية. وفي سبيل الأمريْن، الوقفة المبدئية لإستعادة مصر وتوأمها لإنقاد الجمع الخليجي من حالة تبعثُر فينتهي الأمر حالات إبتلاع لدولة بعد الأخرى. كان كاظماً الغيظ حافظاً الود باسطاً اليد لمواجهة تداعيات أكثرالحالات إيلاماً لنفسه وهي الحالة التي إنتهت إليها سوريا بعد الحالة الفلسطينية وإن كان ما تحقق للثانية من إثبات وجود في الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها مثل «اليونيسكو» وبالذات المحكمة الجنائية الدولية هو القليل من الكثير الذي يتطلع إليه وبذل كثير السعي من أجله وما كان ليتحقق لولا المبادرة التي طرحها في القمة العربية الدورية في بيروت عام 2002 وقوبلت بموافقة إجماعية عربية لأنها جاءت منه.

ما نريد قوله إن الملك عبد الله بن عبد العزيز كان صاحب مشروع من المحزن أن عوامل السن والمرض لم تسعفه لكي يحققه كاملاً وعلى نحو ما يصبو إليه. وهو مشروع من أجل أمة بدأه قائد عربي فيه نفحة تراثية وأنه في السنتين الصعبتيْن الأخيرتيْن من حياة أخيه المغفور له الملك فهد بن عبد العزيز وفي السنوات القليلة نسبياً له كملك لم يعمل ليومه وإنما لآخرته ومن أجل ذلك هذا الحزن عليه الذي لم يحدث إزاء عدد من الحكام تعاقبوا على السلطة في الأمتين العربية والإسلامية وكانت حالة عبد الناصر ثم حالة عبد الله بن عبد العزيز وبينهما حالة الإمام الخميني في إيران وحالة الرئيس رفيق الحريري في لبنان وحالة الرئيس ياسر عرفات في الديار الفلسطينية في الداخل وفي الشتات بمثابة إستثناء، لأن لكل من الزعماء الخمسة مشروعه ولأن الواحد منهم كان يتكلم بلغة الشعب ويبذل المستطاع من أجل أن يكون عند حُسن ظن الشعب. وقد كان الخمسة عند حُسن الظن. وإنغرسوا في الذاكرة كشتلة من الريحان تاركين من الأمثولات ما هو كفيل بجعل الصراط مستقيماً ولو كره الماكرون.