من المهمّ، أن نرى، اليوم، وعلى بعد عشرة أعوام من حرب تموز 2006، التي أرادوها نهائيّة في وجه المقاومة، آثار الصمود، وما أنتجه، ودماء الشهداء والجرحى المقاومين، وما أنتجته، من تغييرات في المشهد السياسي، المفترَض على مسافة زمنيّة أصبحت كافية للاستنتاج.
لم يعُد النقاش مقبولاً حول مَن بدأ الحرب. لجنة التحقيق التي شكّلها العدوّ، أكّدت أنّ القرار بالمعركة ضدّ لبنان والمقاومة قد أُخذ، وأنّ اجتماع شرم الشيخ بين «رايس» و «صغار العرب» كان الهدف منه أو أحد أهدافه التحضير للعدوان، ربطاً بمشروع «الشرق الأوسط الجديد»، فحدث ما حدث وفاجأت المقاومة كلّ هؤلاء بأسرها الجنديّين. ونؤكّد ما قلناه سابقاً في وجه من انتقد عمليّة الأسر. قلنا حينها، يا حبّذا لدينا الإمكانيّة لنقوم بمثل هذه العمليّة، من أجل إطلاق سراح الأسرى اللّبنانيّين والفلسطينيّين والعرب، والتحيّة لمن يستطيع وينفّذ…
كان القرار قد اتُخذ بضرب المقاومة اللّبنانيّة وإخضاع لبنان. هي المرحلة الأولى التي أريد البدء بها في تنفيذ مشروع «الشرق الأوسط الجديد» لما تشكله المقاومة ولبنان من عائق بوجه هذا المشروع.
لقد كان واضحاً أن هذا المشروع يرتكز بشكل كبير على دور الكيان الصهيوني في المنطقة، وخاصة في ما يتعلق بالمثلث اللبناني ـ الفلسطيني ـ السوري، وإحدى قنوات هذا الدور هي استكمال التطبيع مع الخليج وبشكل رئيسي مع السعودية، لكونه قد بدأ قبل ذلك بكثير وتحديداً مع الملك المؤسس ووعده.
على هذا الأساس، ماذا يمكن أن نستنتج بعد هذه السنوات عن الدور الذي لعبته حرب تموز والصمود اللبناني، وبعده معارك غزة وتضحيات الشعب الفلسطيني؟
ملاحظات أساسية عدة نطرحها للنقاش:
الملاحظة الأولى، الاستنتاج الأساس، أن حرب تموز أعاقت إلى حد التعطيل ولفترة عشر سنوات دور الكيان الصهيوني في تنفيذ المخطط. فأتى صمود المقاومة اللبنانية والشعب والجيش، كما صمود غزة والانتفاضات المتتالية في الضفة الغربية، ليؤكد أن تفوق العدو ليس بديهياً وأن هنالك إمكانية لهزيمته برغم الفارق الكبير في ميزان القوى.
الملاحظة الثانية، هي أن الذي تحقّق سابقاً من خطة الشرق الأوسط الجديد، وتحديداً السيطرة الأميركية على العراق، لم يعد فعلاً تاماً بعد حرب تموز، بل أظهرت هذه الحرب إمكانية مقاومة الغزو الأميركي ومنع تحقيق كامل استهدافاته، ومن هنا، لجوء الأميركي للانسحاب والاعتماد على الخطة البديلة أي تفتيت العراق، ودعم تحويله إلى ساحة للعداوات والنزاعات المذهبية والعرقية، بدعم من السعودية بشكل مباشر، وبمساهمة غير مباشرة من القيادة العراقية المدعومة من إيران.
الملاحظة الثالثة، أن حرب تموز اضطرت بعض الدول المنضوية في المشروع الأميركي لتخفيف وضوح التحاقها. فسارع بعضها وتحديداً قطر وتركيا إلى محاولة خطف الانتصار، مستفيداً من أخطاء ارتكبتها المقاومة في هذا الإطار، وبالتالي غيّرت اتجاه فعل التدخل القطري ـ التركي، وبعد ذلك السعودي، إلى دعم الحركات الإسلامية، تحت شعار التغيير في الدول العربية، بدءاً من ركوب موجة الانتفاضات في تونس ومصر، إلى تفجير الدول الأخرى من الداخل، بدءاً من اليمن فليبيا إلى سوريا بشكل خاص.
أما السلبي في هذا المجال، فهو «السكرة من زبيبة دعم قطر»، فشعار «شكراً قطر» تحول على المستوى الإقليمي إلى عمى ألوان في النظر إلى طبيعة الانتفاضات العربية حيث اعتبرت إيران أن ما يجري هو «ربيع إسلامي».
الملاحظة الرابعة، وبدون مبالغة، شكلت حرب تموز بداية تغيير في ميزان القوى الإقليمي، ومهّدت لتعدّد أقطاب اللعبة الدولية والإقليمية، بحيث لم تعُد أميركا اللاعب الدولي الوحيد، ولا تركيا والسعودية والعدو الإسرائيلي اللاعبين الحصريين على مستوى منطقتنا.
أما الملاحظة الخامسة، فليس لها دلائل مباشرة، ولكن تعطيل أو إعاقة دور العدو الإسرائيلي كان له آثار على المستوى الدولي، فالدور الإسرائيلي كان مقدراً له أن يشكل عامل دعم وتنظيم وتدريب لقوى الإرهاب من جهة، وعامل ضبط لها من جهة أخرى، حتى لا تتكرر تجربة بن لادن وطالبان. إن إعاقة هذا الدور ساهمت إلى حد كبير في تفلت قوى الإرهاب من عقالها، فلا إسرائيل أصبحت قادرة، وأصلاً فإن دور دول الخليج محصور فقط في التمويل والتعبئة الأيديولوجية، وساهمت دول أوروبا في تأمين الدعم البشري للحرب الإرهابية داخل سوريا، ولكن أصبحت بحد ذاتها هدفاً للإرهاب الذي توسع داخل أراضيها.
ومع ازدياد عوامل التفتت الاقتصادي والسياسي التي تطال وحدة أوروبا، بدأ عامل التفتيت والحروب الداخلية داخل أوروبا نفسها وتحوّل مشروع الشرق الأوسط الجديد بتخطيط أميركي أو من دونه، والأرجح من دونه، إلى فرض عالم جديد لم تتضح آليات تطوره بعد.
تبقى الملاحظة الأخيرة والهامة، وبعكس نظرة البعض إلى أن حرب تموز كان لها دور واحد وهو تعزيز النفوذ الإيراني في المواجهة، فإن جانباً إيجابياً من هذه الحرب وبرغم الدور الإيراني ودور المقاومة الإسلامية وشهدائها، أثبتت هذه الحرب أنه إذا كان في الإمكان مواجهة إسرائيل عبر طرف إسلامي محدد، فإن هذا الدور يصبح ليس فقط محدوداً، بل مضراً في مواجهة الإرهاب، إذا ما بقي الإصرار على أن يكون رأس حربته ذا طابع مذهبي.
في هذا الإطار، وفي ذكرى ثورة تموز في مصر، يتضح أكثر كم هو ضروري إعادة الاعتبار للمواجهة ذات الطابع القومي التقدمي والديموقراطي كإطار ضروري في مواجهة المخطط الأميركي الصهيوني، ولبلورة صمود العالم العربي في خضم عالم لا تتضح معالمه اليوم، وتجعل منه الإمبريالية ساحة للفوضى والفتن والحروب، خصوصاً أنه بعد الذي يجري في العالم ـ ومنه الولايات المتحدة ـ من هجمات إرهابية، يبقى السؤال الخطير الذي يستلزم نقاشاً وبحثاً: هل رأس المال المعولم يريد بقاء «الدولة» أي «دولة»؟
(&) الأمين العام السّابق للحزب الشيوعي اللّبناني