راجت، في سنيّ الوصاية السورية، مقولة أنّ البلد “ممسوك وليس بمتماسك”. ظهر فهمان مختلفان لها. فهي توحي من جهة بأنّ الوصاية، إذ تفرض سطوتها على معادلات الداخل اللبناني، مرة على طريقة “فرّق تسد” والبطش هنا والإبتزاز هناك، ومرة وفقاً لمقتضى “تحشيد من يمكن تحشيده” خلف الوصاية. كانت تزعزع في نفس الوقت عناصر التماسك والعقد الإجتماعيين. لكنها يمكن أن توحي من جهة أخرى بأنّه اذا تعطّلت هذه الوصاية، وبقيت وظائفها شاغرة من بعدها، فلن يعود البلد متماسكاً، لكنه لن يكون ممسوكاً في نفس الوقت. تقريباً، كانت مقولة مشتركة بين المبرّرين لإستدامة الوصاية وبين الساعين إلى تقليصها أو تقليص مدّتها.
ماذا عن الحال اليوم بعد كل هذه السنوات؟ هل البلد ممسوك أو متماسك، أو الإثنان معاً، أو لا هذا ولا ذاك؟ بشكل أساسي، ما ان أجلت الوصاية السورية جيشها حتى ظهر انقسام حاد بين اللبنانيين، انقسام كان يميل أخصام الوصاية إلى التقليل من خطورته، وكان تركيز أنصارها على أنّه سيحدث ما ان يتأهب الجيش السوري للرحيل نقطة ضعف سياسي بالنسبة لهم، رغم كونها نقطة تستند، على ما تبين بالفعل، الى معطيات واقعية وليس خيالية.
بالفعل، البلد انقسم على خلفية أفول الوصاية السورية. في نفس الوقت، هذا الإنقسام لم يكفل التمديد في عمر الوصاية، لكنه أفسح المجال لإنطلاقة حرب سرّية ارهابية ضدّ الشخصيات المناوئة لاستمرار الوصاية، أو المساهمة في التعجيل بأفولها. ومن وراء هذا الإنقسام ظهرت الإشكالية المتممة له: من ينهض لـ”وراثة” المركز الخالي الذي أخلاه الوصيّ السوريّ؟ هل سيبقى النظام السوريّ يمارسها عن بعد؟ هل يستعاض عنها بنظام اشرافات اقليمية متوازية أو متواجهة أو متواطئة؟ أم بهيمنة خارجية جديدة تنهض بها قوة اقليمية بعينها؟ هل سينهض بها “حزب الله”؟ هل سيلغي اللبنانيون الحاجة الى الوصاية من الأساس، باستصلاح النظام السياسي، في إطاره الدستوريّ، وخلفيته الميثاقية؟
ما حصل في النهاية، أنّ النظام السوري لم يستطع أن يمارس الوصاية من خارج الحدود، بل ضعفت امكاناته هذه سنة بعد سنة، منذ خروجه من لبنان، وصولاً الى انفجار الوضع السوري الداخلي، وأنّ نظام الإشرافات الإقليمية المتعددة لاح بالفعل، لكنه تراجع بالنسبة الى تعاظم الارتباط المحوري بإيران، وأن “حزب الله” الذي طرح نفسه بشكل أو بآخر، كوصيّ داخلي، لم يستطع في نفس الوقت أن يؤمّن ما كانت تؤمّنه الوصاية السورية من “تشغيل” لمرافق التركيبة اللبنانية، وأنّ الانتخابات النيابية التي كانت تجري بقانون “يقمّشه” الوصيّ السوريّ وفقاً لمصالحه وأهوائه، صار حصولها أصعب بعد رحيل الوصاية.
وبالنتيجة؟ البلد اليوم ليس بمتماسك، لكن تماسكه الاجتماعي أفضل الى حد كبير من بلدان عربية مشرقية عديدة، وهو يعاني من انعدام توازن بين مكوناته، لكن لا يمكن القول أنّه “ممسوك” بالشكل الذي كان ممسوكاً في سنيّ الوصاية.
في هذه الوضعية الملتبسة، حيث هو غير متماسك تماماً، لكن حاله “أفضل من سواه”، ويعاني من انعدام توازن واسع، وتعطّل وظائف سيادية أساسية، لكنه “غير ممسوك”، تطرح نفسها أيضاً اشكالية “الاستقرار”.
تطرح نفسها، لأنّ “الإستقرار” كثيراً ما يظلم كمقولة. هناك تقليعة شعبوية كثيراً ما تعتبره شيئاً غير مستحب، شيئاً ينبغي التبرّم منه، التعالي عليه، في حين أنّ الإستقرار هو عنصر مهم لأي كائن اجتماعيّ، وينبغي عدم التعالي عليه كشعور، عدم تبرير كل المسائل به، عدم تحنيطه، أو رفعه “أقنوماً” فوق كل شيء، لكنه معطى مهم، وأساسي، ينبغي طلبه بشكل واضح ومن دون وجل.
ثمة استقرار له حدود معينة، وهو نتيجة لتقاطعات محددة، وغير متينة في جوانب كثيرة. لكن ثمة منسوب معيّن من الإستقرار. الجحود به كما تحميله فوق قدره من شأنهما الإضرار به، والإضرار بمصالح الناس. “التصالح” مع الإستقرار كفكرة، سيسمح في المقابل، أقله بنشدان تحويل الإستقرار الهش القائم، غير المتماسك وغير الممسوك، إلى حيث يمكن اكسابه شيئاً من التماسك، وتحريره من انعدام التوازن المزمن.
الإنتخابات النيابية محك أساسي لمسألة الإستقرار. محك إما لبداية تحويل الاستقرار الهش والجزئي الى استقرار على جانب من التماسك، واما لمزيد من الهشاشة. وبهذا المعنى، الاستحقاق المرحّل منذ سنوات، لم يعد يمكن تأجيله اليوم. ليس استحقاق الانتخابات بحد ذاته، بل استحقاق “تحقيق” الإستقرار، بنقله من دائرة الجزئية الى دائرة أكثر منهجية وتماسكاً، أو انفجار تناقضات هذا الاستقرار الجزئيّ، في الحالة المعاكسة.