IMLebanon

من الدويلات إلى العصابات!

هل يمكن الركون لوصف ما جرى في الانتخابات البلدية بالمفاجأة؟ المقصود بذلك، طبعاً، ما أفرزته من النتائج (ربحاً أو تحقيق نسب عالية من التأييد) في بيروت وطرابلس وعدد آخر من المدن والبلدات الموزعة على معظم المناطق اللبنانية. المفاجأة أو، حتى، الدهشة كانتا كبيرتين، في الواقع، بمقدار ما ترسَّخ في الأذهان بأن «ليس بالإمكان أفضل مما كان»، وأن قوى المحاصصة تملك تفويضاً أعمى (نظرية القطيع) من قبل الغالبية الساحقة من مؤيديها في المستويات القاعدية عموماً، وفي أكثر تجمعاتهم حرماناً وفقراً على وجه الخصوص!

ثم أن القوى الحاكمة نفسها قد ذهبت بعيداً في الركون إلى صلابة سيطرتها ورسوخ مواقعها. لذلك هي أهملت كل احتمال آخر من نوع أنها، بسياساتها وتوجهاتها، قد تجازف باستثارة نقمة في صفوف الأهالي المتضررين (وهؤلاء أكثرية المواطنين)، ومن نوع ضرورة إظهار شيء من الاحترام لمشاعر وكرامة «رعاياها» وتجنب استفزازهم وخداعهم والاستهتار بمصالحهم في الوقت عينه. لقد مضى المسؤولون في نهج احتقار «جمهورهم» إلى الحد الأقصى حين أُلقيت النفايات في وجه المواطنين، فيما اندلع صراع وقح وعلني وطويل بين عتاة المتحاصصين على تمرير العقود والصفقات، أو تعطيلهما، ولو اقتضى تحقيق ذلك إغراق البلاد والعباد بالنفايات والروائح والأوبئة. الأنكى أن كل ذلك قد حصل في امتداد سياسة عبثية ضربت بمصالح البلاد والمواطن عرض الحائط، وبحدود غير مسبوقة من حيث تعطيل المؤسسات والتبعية واستثارة الغرائز الطائفية والمذهبية. هذا إلى تعاظم الفساد الذي بلغ مستوى شاملاً ومخيفاً لجهة تهديد مصالح الوطن العامة وتعريض أمنه لاختراقات سياسية واقتصادية وأمنية خطيرة، حتى من قبَل العدو الصهيوني نفسه (في استجرار الانترنت غير الشرعي من الخارج واختراقه القطاعات والمناطق اللبنانية كافة، على سبيل المثال).

ساهم الصراع الإقليمي الضاري، بين مرجعيات القوى المحلية، بدوره في تبديد الحد الأدنى من التعاون بين القوى المحلية، وفي احتواء نزاعاتها وصراعاتها وقت الاستعصاء. أدى ذلك إلى انكشاف جديد برزت معه أطراف المحاصصة بارتكاباتها ونهبها للبلاد، أقرب إلى العصابات بعد أن كانت أقرب إلى الدويلات التي تتغذى من خزينة الدولة وعلى حساب عافيتها وحضورها وفاعليتها. وحدها أجهزة الأمن ظلت موحدة وحاضرة لحراسة نظام المحاصصة رغم أن أطرافه ذهبت بعيداً في انقساماتها وعبثها، دون أن يمنعها ذلك من اتخاذ قرار جماعي بدفع الأجهرة الأمنية لممارسة قمع اتخذ طابعاً وحشياً أكثر من مرة. لكن القمع الذي اتسم بالعنف والقسوة الشديدين، شكّل، بالمقابل، تعبيراً عن قمة الأنانية والاستهتار بحقوق المواطنين، فيما تميز تحرك المحتجين بطرق ظلت، عموماً، سلمية وهادئة. ليس هذا فقط بل أنه، بسبب اتساع التعاطف مع المحتجين وتوسع المشاركة في الاحتجاجات، أشهر بعض كبار المحاصصين سلاح البلطجة عبر ميليشيات خاصة (أقرب إلى زعران الشوارع) من المنتفعين أو المُحرَّضين بشكل فئوي، طائفي أو مذهبي أو حزبي…

الواقع أن تراكم الاحتقان لم يقتصر على الذروة التي بلغها بعد انفلات وتمادي أزمة النفايات قبل حوالى عام. لقد كانت لذلك الاحتقان محطات بارزة أيضاً في التحركات المطلبية والخدماتية المرتبطة بعشوائية التوظيف والتعامل مع الأجراء والمياومين، وصولاً إلى اندلاع تحركات المعلمين في القطاع العام والخاص طيلة أكثر من سنتين دون أي تجاوب يُذكر. وقبل ذلك وأثناءه كان الفريق الحاكم يُراكم المزيد من الفئوية وصولاً إلى تعطيل الانتخابات والاستحقاقات الدستورية، فكأنما بات مجرد حق الإقتراع، ولو في نظام انتخابي معلَّب ومشوه، ترفاً لم يعد يطيقه إقطاعيو السياسية والسلطة في لبنان.

لم تحل التوترات الأمنية في الداخل والخارج دون تأجيج الاحتجاج الشعبي الذي كانت تراكم عوامل اندلاعه، بشكل شديد التفاقم، أزمة إقتصادية طاولت، بالدرجة الأولى، الأجيال الجديدة، حيث بلغت البطالة حدوداً غير مسبوقة. اقترن ذلك أيضاً بأزمات المنطقة وهي أزمات شاملة وطاحنة ومرشحة للتصاعد دون رحمة أو حدود.

لكن، في كل الأحوال، كان على الفئات الشعبية المتضررة أن تقلِّع شوكها بيدها. قوى التغيير تبدّت في حالة عجز وضمور وغياب. لذلك اشتق المحتجون صيغاً جديدة، كان بعضها خلاقاً، ومعظمها تجريبياً، لكنها جميعاً افتقرت إلى حاضنة سياسية شعبية تدعم تحركها وتضيفه إلى رصيد عملية التغيير المنشود الشاملة.

في محطات تحرك «إسقاط النظام الطائفي» عام 2011، مروراً بالاحتجاجات المطلبية والنقابية وتحرك المعلمين والموظفين في القطاعين العام والخاص، وصولاً إلى التحرك ضد أزمة النفايات، جذبت التحركات قطاعات شعبية واسعة ومتزايدة. لكن هذه لم تحقق، عموماً، الحد الأدنى مما كانت تتطالب به. فهي جميعها، قد جُوبهت بالتجاهل أو المماطالة والخداع أو القمع. وهكذا تراكم سخطها وانفجر، بهذا الشكل أو ذاك، في الانتخابات البلدية التي فُرضت على أطراف السلطة في شهر أيار الماضي.

أصابت شظايا النقمة والسخط الجميع («كلن يعني كلن») بهذه الدرجة أو تلك. ليست المسؤولية واحدة لكن هي، مع ذلك، شاملة يجتمع فيها المرتكب والساكت على الارتكاب وإن اختلفت نسبة المسؤولية وتباينت بين طرف وآخر. وإذا أخذنا الأمور من زاوية الانضواء في النظام السياسي والراهن والدفاع عنه ودفعه إلى مداه الأقصى (في تغذية الطائفية والمذهبية)، يتساوى الجميع في سد أبواب التغيير وفي التنكر للإصلاح حتى في الشق المكَرَّس في دستور البلاد المقر بعد إتفاق «الطائف» عام 1989.

لم تتسم تصرفات أطراف بالسلطة بالمسؤولية حين أطلقت أشرس عملية تجاهل ومناورات وقمع في وجه الاحتجاجات الشعبية والشبابية. لم يكن على هذا النحو الرد الشعبي، وخصوصاً في الانتخابات البلدية، حيث جاء حضارياً ومسؤولاً.

نعم لقد شكلت الانتخابات البلدية مفاجأة لليائسين المخدوعين بدعاية الحكام الذين رسًخوا لديهم أن لبنان «غير شكل»، وأن شعبه طائفي حتى العظم، وأنه «كما تكونون يولى عليكم». وكانت النتائج مفاجئة، أيضاً، لبعض قوى التغيير المأزومة التي «ارتاحت» (لتبرير عجزها) إلى رواية أرباب المحاصصة بشأن رسوخ الطائفية والمذهبية واستحالة القدرة على إضعافهما في المرحلة الراهنة على الأقل.

على العكس من ذلك، لم تكن النتائج مفاجئة لأطراف السلطة. بعضهم انكفأ جزئياً أمام الموجة: النائب وليد جنبلاط. آخر سارع إلى نسخ تحالفات مع خصوم كان يشيطنهم إلى وقت ليس ببعيد (تيار المستقبل). ثالث عزَّز «الثنائية» لكي يسد الطريق على تسرب أي رياح غريبة إلى مناطق نفوذه («حزب» الله و«أمل»). ورابعهم لجأ إلى العصبية الطائفية علَّها تقطع الطريق على التساؤلات والاعتراضات والخيبات («التيار الوطني» الحر و«القوات اللبنانية»)…

لم يكن التغيير مستحيلاً بالأمس، ولا هو بات سهلاً اليوم. المهم الحضور في ساحة الحدث والفعل والأزمات، وامتلاك المواقف والبرامج المناسبة، وكذلك صيغ العمل والتفعيل الضرورية. في ظل أزماتنا المستفحلة القديمة الجديدة ليس التغيير ترفاً بل هو، في محتواه الوطني وطابعه الديموقراطي، ممر إجباري نحو إنقاذ وبقاء لبنان.

* كاتب وسياسي لبناني