ما تملّكت «الفوبيا» فاعلاً في السياسة وتركته على حاله. فإذا كان الفاعل السياسي يحيل خطواته عادة على مبرّرات أيديولوجية حدث العجب. «فوبيا داعش» التي يسوّق على أساسها «حزب الله» للحرب الوجودية والتعبئة العامة، ويمنّن اللبنانيين المناوئين له، بأنّه يحميهم وهم ينكرون الجميل، هذه الفوبيا فيها ما يذكّر بأنماط من «الفوبيا» انتابت شخصيات فرنسية مرموقة قبل الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها «الفوبيا من ألمانيا» و»الفوبيا من النازية»، فما كانت النتيجة؟
لم يتملّك الرهاب من كل ما هو ألمانيّ شخصاً مثل المفكر والأديب والسياسي شارل مورا في فرنسا ما بين الحربين. لم يترك مورا فكرة أو استعارة لم يوظّفها بغية ابراز التضاد بين القومية الفرنسية والقومية الألمانية، فنسب الأولى للعقل والثانية للجنون. دعا لوحدة الشعوب اللاتينية ضد الجرمان، دعا للحرب الاستباقية ضد المانيا قبل ثلاث سنوات من الحرب العالمية الثانية، وصف ادولف هتلر بأقذع الألفاظ. ما كانت النتيجة؟ بعد النصر الألماني الساحق واستسلام باريس، تحوّل شارل مورا الى أبرز المتعاونين مع الاحتلال النازي. اعتبر الاحتلال مناسبة لتتطهّر فيه فرنسا مما كان يمقته: الجمهورية والبرلمانية وفلسفة حقوق الانسان. وعندما هزمت النازية، ومثل مورا أمام المحكمة التي تولّت شأن المتعاونين، حاول، بعبثية شديدة، أن يقنع القضاة بكراهيته الأيديولوجية لألمانيا وللنازية.
الفوبيا تدفع بالفاعل السياسي الى الاعتقاد بأنّه ثابت في موقعه بإزاء غريم يشيطنه، فتكون النتيجة أنّها تدفعه دفعاً إما الى براثن غريمه، أو الى تحويل نفسه مخالب إضافية لهذا الغريم.
لم يقتصر التعامل مع الاحتلال الألماني في فرنسا على اليمينيين. بيار دوريو، قيادي الشبيبة الشيوعية الفرنسية في العشرينات، طُرِدَ من الحزب الشيوعي في بداية الثلاثينات، بأي تهمة؟ المبالغة في معاداة الفاشية والنازية بشكل فيه إضرار بضراوة الصراع الطبقي مع البرجوازية. قاده هذا الى الفوبيا من الفاشية والنازية والشيوعية معاً، ثم خلط كل هذه المؤثّرات في شخصه ومحيطه، وعندما احتل الألمان بلاده تحوّل الى زعيم حزب مؤيد لهم بحماسة، «الحزب الشعبي الفرنسي».
فوبيا الشيوعية لديه بعد طرده من حزبها، دفعته لاحقاً الى تبرير الاحتلال الالماني، كتحرير لفرنسا من خطر الشيوعية. أكثر من ذلك: تطوّع في الجيش الالماني على الجبهة الروسية!
مارسيل ديا، قيادي اشتراكي فرنسي في فترة ما بين الحربين هو الآخر، ومن ثم عضو بارز في رابطة المثقفين المعادين للفاشية. لم يترك مقالاً لم يكتبه ضد خطر النازية قبل الحرب، لكنه أصيب في الوقت نفسه بالفوبيا من النظام الديموقراطي البرلماني. اعتبر أن هذا النظام الثرثار والممل سيجعل فرنسا ضعيفة وطيّعة أمام الخطر الألماني المتعاظم، ما كانت النتيجة؟ اجتاح الألمان بلاده، فأخذ يقاوم المقاومين، وينظّم العملاء في «التجمع القومي الشعبي»، بل أكثر، عدّ الاحتلال ثورة، ثورة تجدّد قومي – اشتراكي ستجعل من فرنسا «المانيا جديدة». أخذ يتفلسف بأنّ النازية هي الامتداد الطبيعي للثورة الفرنسية الكبرى – هذا في حين كان شارل مورا، يبرّر التعامل، بأن النازية هي أداة التاريخ لتحرير فرنسا من رجس ثورتها. أما اندريه بيكار فتغنى بذلّ الاحتلال اجتماعياً. هذه «فرنسا الاشتراكية» قال!
كلّما وقع الكوز بالجرّة وجد من يشيطن خصمه ويعتبره فاشياً أو نازياً، ليسوّغ من ثم الطابع «الوجودي»، التناحري فالانتحاري، معه. فالمعزوفة غالباً أن الخطأ في اوروبا الثلاثينات أنّها تأخّرت كثيراً في التسامح مع ادولف هتلر وكان ينبغي ان تشن حرباً استباقية عليه مبكراً. على هذا المنوال شنّ المحافظون الجدد حربهم الاستباقية في العراق، كي لا يتطوّر فيه فرع لتنظيم القاعدة، أتذكرون؟ اليوم، تعدّ «القاعدة» حركة ليبرالية قياساً على «داعش». والحرب الاستباقية والفوبيا المؤدلجة هي الآن تسجن «حزب الله» في سجن «حزب الله» نفسه، والمعزوفة نفسها: «داعش» هي النازية الحالية، وينبغي إرسال كل الشباب (فالتعبئة العامة تعني أول ما تعنيه شدّ همة شباب حركة أمل لمرافقة شباب الحزب، مثلاً) ضدّها، وتوسيع مفهوم «داعش» ليشمل كل من بمقدوره ان يصير «داعشياً» في يوم ما!
لكن مشكلة المتعاونين الفرنسيين مع ألمانيا الهتلرية لم تكن في تأخرهم في مجابهتها، كانت في الفوبيا «الاستباقية» التي تملّكتهم. واحد ضد ألمانيا نفسها (شارل مورا)، وثان ضد الديموقراطية لأنها «هزيلة» في مواجهة النازية (مارسيل ديا)، وثالث لأن حزبه الشيوعي طرده لأنه تطرّف في معاداة النازية، فانتهى به المقام متطوعاً الى جانب الألمان على الجبهة الروسية!
«داعش» تتقدّم، «النصرة» أيضاً. حسناً، الشرط الأوّل للخوض في الأمر هو ضبط ارهاب الرُهاب: الفوبيا المؤدلجة تؤدي – في الغالب – نتائج عكسية. وإذا كانت عادة الممانعين الاحالة الى الثنائية الفرنسية – «مقاومة وعمالة»، واذا كان هناك «كم نصّاب» يلبّس الصراع في سوريا ثوب مواجهة بين «الفاشية» وبين الممانعة المشرقية، فليراجع أبدال بيار دوريو وبيار ديا صورهم الأصلية!