من إقليم راخين في ميانمار إلى مختلف الأقاليم في سوريا، وقبلهما في أقاليم يوغوسلافيا السابقة ورواندا، وما فات الذاكرة أيضاً، تتناسل المجازر. تختلف هويات الضحايا وتختلف دياناتهم ومذاهبهم وانتماءاتهم العرقية؛ لكن هوية المجرم تبقى هي ذاتها. وجه كالح لا يملك لإثبات وجوده و«شرعيته» سوى سلاح القتل وتعذيب ضحاياه أو معارضيه، أو من يحملون هوية تختلف عن هويته.
أمام هول المجازر، يفيق ضمير العالم متأخراً، أو لا يتحرك أبداً. هل هناك من يتوقع مثلاً أن يحال أي مسؤول سياسي أو عسكري إلى أي نوع من المحاكمة، أو إلى تحقيق العدالة بعد الجرائم التي ارتكبها النظام السوري؟ هل هناك احتمال كهذا؛ خصوصاً مع ما بات يتأكد من بقاء هذا النظام ورأسه في الحكم، رغم مسؤوليته المباشرة عن القتل والدمار الذي لحق بسوريا خلال السنوات السبع الماضية؟
هناك تقارير صدرت، وأسماء مسؤولين وضباط كبار تم تداولها. وهؤلاء أعطوا الأوامر بارتكاب المجازر في مختلف المناطق السورية، ومنهم من يلتقون بشكل دوري مع مسؤولين روس ودوليين، في وضح النهار.
في سوريا، لا يتحمل العالم مسؤولية عدم تحقيق العدالة فقط؛ بل يتحمل ما هو أفظع، أي تمكين النظام من البقاء والإمعان في ارتكاباته، رغم توافر فرص كثيرة كان يمكن أن تضع حداً لذلك، أهمها استخدام السلاح الكيماوي في غوطة دمشق في أغسطس (آب) 2013، رغم «الخط الأحمر» الشهير الذي هدد به باراك أوباما.
لهذا تثير الاستغراب التصريحات الأخيرة التي أطلقها عدد من المسؤولين الدوليين بشأن مستقبل سوريا، ودور بشار الأسد في هذا المستقبل، وخصوصاً ما سمعناه أخيراً على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، اللذين دعيا إلى ضرورة عدم بقاء سوريا في قبضة بشار الأسد في ظل أي حل سياسي. ماتيس قال إن الولايات المتحدة «ملتزمة بالعمل كي يختار الشعب السوري حكومة لا يقودها الأسد». فيما قال الرئيس الفرنسي إن عودة الوضع إلى طبيعته في سوريا مع بقاء الأسد في السلطة سيكون خطأ فادحاً. ويتساءل ماكرون: من الذي تسبب في الآلاف من اللاجئين؟ من الذي ارتكب مجازر بحق شعبه؟
كلام ممتاز لولا أنه ما عاد يقنع أحداً من السوريين أو غيرهم بصدقه أو بجديته. فالرئيس الفرنسي الذي أطلق هذه التصريحات هو أول مسؤول غربي أمر بإرسال قافلة من المساعدات إلى الغوطة الشرقية بالتنسيق مع روسيا (حامية النظام السوري)، بعدما قام هذا النظام وأعوانه بطرد المعارضة منها في يوليو (تموز) الماضي.
أما الإدارة الأميركية الحالية، فهي تنسق مع الروس على مخرج لها في سوريا يساعد على التعاون في الحرب ضد «داعش»، وعلى إخراج القوات الأميركية من سوريا بأقل الخسائر، وهو ما جعله الرئيس دونالد ترمب هدفاً لسياسته السورية.
هذا في سوريا. أما ما تعرض له أبناء ميانمار من الروهينغا من مجازر ذهب ضحيتها عشرات الآلاف، وفرّ بسببها ما يقارب المليون شخص إلى بنغلاديش المجاورة، فلم يدفع كذلك أحداً في العالم للتحرك لوقف تلك الجرائم. طبعاً ارتفعت أصوات من هنا وهناك تندد بالانتهاكات الفظيعة بحق هؤلاء المساكين. ومعظم الأصوات كانت ردود فعل على مشاهد المأساة التي كانت تتكرر كل ليلة على الشاشات؛ لكن ما إن ينتهي المشهد – الفيلم، حتى تخفت الأصوات وينتقل الاهتمام إلى مشهد آخر وجريمة أخرى، قد تكون أقل أو أكثر مأسوية؛ لكن الأصوات تبقى أصواتاً في كل حال. وعندما يخجل العالم من نفسه ويقرر التحرك، يكون قد فات ما فات، وتكون عناصر الجريمة قد اكتملت، ويكون المجرمون أو أكثرهم قد أفلتوا من العقاب.
حتى المسؤولون عن جائزة نوبل، التي كانت تُعتبر مرجعاً للقائمين بالأعمال الإنسانية والإبداعات في مختلف المجالات، حتى هؤلاء لم يجدوا ما يبرر سحب هذه الجائزة من رئيسة ميانمار أونغ سان سو تشي، التي كانت تعتبر ذات يوم رمزاً للنضال ضد السلوك القمعي لجيش بلادها؛ رغم أن التقرير الدولي الأخير عن مأساة الروهينغا اتهمها بعدم استخدام سلطتها المعنوية لمنع تلك الانتهاكات، كما قامت بنشر روايات كاذبة عن أسباب المجازر، وأنكرت التهم الموجهة لجيش بلادها، ومنعت إجراء تحقيق مستقل لتحديد المسؤوليات.
إضافة إلى رئيسة ميانمار، أصدر التقرير الدولي إدانات بحق 6 من كبار ضباط جيش ميانمار، قال إنهم مسؤولون مباشرة عن أعمال الإبادة الجماعية التي حصلت بحق الروهينغا، واعتبرهم من أسوأ مرتكبي الجرائم ضد حقوق الإنسان في العالم، وقرر التقرير إحالتهم إلى المحكمة الجنائية الدولية. لكن أخطر ما في التقرير هو الإشارة إلى أن أعمال العنف الفظيعة التي ارتكبها جيش ميانمار كانت متوقعة منذ عقود، وهو ما يعني بالتالي أنه كان يمكن تجنبها منذ عقود. إذن يدين المجتمع الدولي نفسه عندما يقرر أنه وقف متفرجاً على جرائم من هذا النوع وبهذا الحجم، ترقى إلى مستوى قرار إبادة شعب بكامله بسبب دينه وهويته، وهو ما يتكرر مأساة بعد مأساة، ويذكّر بسياسة التنظيف العرقي التي ترتكب أمام عيوننا في أكثر من مكان، كما فعل الصرب في البوسنة، وكما يفعل النظام السوري في المدن والمناطق السورية، من تنظيف عرقي مبرمج لإعادة تركيب الخريطة الديموغرافية لتلك المناطق، بما يعزز وضع الأقلية التي ينتمي إليها هذا النظام ويحكم باسمها.
التحقيق المتأخر في أي جريمة لا يفيد الضحايا. أقرب مثال في التاريخ القريب الأحكام التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة التي اختتمت أعمالها في نهاية العام الماضي بالحكم على راتكو ملاديتش، المعروف بـ«جزار البلقان» بالسجن مدى الحياة، بعد إدانته بقتل 7 آلاف من مسلمي البوسنة في مجزرة سريبرينيتشا سنة 1995، وبالمسؤولية عن حصار مدينة سراييفو الذي أدى إلى مقتل أكثر من 10 آلاف شخص. قبل ملاديتش أصدرت المحكمة حكماً آخر بسجن رادوفان كاراديتش رئيس ما كان يعرف بجمهورية صرب البوسنة، بالسجن 40 عاماً… ماذا كانت نتيجة هذه الأحكام؟ هل أعادت الحياة للضحايا؟ بل هل منعت ارتكاب جرائم أخرى مثل التي نتحدث عنها ولا تزال ترتكب أمامنا؟
سلوك كهذا يبدو من قبيل رفع العتب أو إراحة الضمير؛ بل إن قيام المحاكم يبقى خاضعاً أيضاً لموافقة الدولة أو النظام المعني، كما يبقى محكوماً بقرار من مجلس الأمن الدولي، وهو ما يصعب حصوله ضد حكومة ميانمار وجيشها، بسبب وقوف الصين إلى جانبها. في حالة صربيا كانت ضغوط الاتحاد الأوروبي عاملاً مساعداً لتسليم المطلوبين إلى العدالة، أما في حالة ميانمار فقد رفضت الحكومة الاتهامات، ما يعني أنه لن يكون هناك سبيل للوصول إلى الضباط المتهمين.
مثل هذا الوضع يتكرر في المشهد السوري. هنا لا يمنع حاجز «الفيتو» فقط الوصول إلى المتهمين؛ بل إن هذا الفيتو المتكرر (الروسي تحديداً) منع حتى صدور قرارات دولية تدين النظام السوري. هكذا يصبح تحقيق العدالة محكوماً باعتبارات السياسة والمصالح، ويذهب الضحايا أيضاً من دون أي حساب، بسبب اعتبارات السياسة والمصالح.