افتتاح محوّل كهربائي في معمل رشميا تحوّل مع وزير خارجية لبنان جبران باسيل الى منبر ثأري استحضرت فيه عبارات الاستنفار وأدبيات ما قبل المواجهة. يقول الوزير «العودة لم تتمّ، والمصالحة لم تكتمل….. نريد العودة لتكون حقيقية وناجزة، آن الآوان للعودة السياسية الى الجبل بفعل قانون الإنتخاب الجديد والتمثيل الصحيح». ويُضيف في إجتزاء للتاريخ «لنستطيع أن نطوي مرحلة، يجب أن نعالج كلّ الآثار النفسية لها، وما فينا نمشي في هذه المنطقة ونسمع الناس ماذا تتذكر وكم تتحسر……… حق الإنسان الطبيعي أنّه يريد أن يعرف أهله أين؟ وعظامهم أين؟ وترابهم أين؟……… والذي يحب أهله ويتذكر كيف استشهدوا….. استشهدوا لأنّهم بقوا بهذه المنطقة….» وكأنّ المآسي التي حصلت في الجبل كانت عبارة عن هولوكوست ارتكبه طرف سياسي مسلّح يمتلك السلطة بحقّ طرف سياسي أعزل.
الوقائع ليست كذلك يا معالي الوزير، إنّ معرفة حقيقة ما حصل في الجبل في أعقاب الإجتياح الإسرائيلي في العام 1982 وتوقيع اتّفاق السابع عشر من أيار مُتاح لمن يريد أن يعرف الحقيقة، ويمكن لمن لم يعايش تلك المرحلة بسبب حداثة سنّه ، العودة الى الكثير مما كُتب عنها بموضوعية وبعيداً عن سرديّات متوترة، يدرك أصحاب العقول الوازنة والنوايا الحسنة مدى الضلال والخبث اللذين تضمرهما.
هل تعلم يا معالي الوزير أنّ الاحتفال الذي كنت ترعاه أنّما يبعد كيلومتراتٍ قليلة عن قرية مجدل المعوش القرية الأولى التي سكنها الموارنة في الشوف، والتي كانت الهبة الدرزية الأولى التي قدّمها الأمير فخر الدين من أراضي الشوف للكنيسة المارونية في العام 1609، كي يستخدمها البطاركة الموارنة مقراً لإقامتهم عند اللزوم. لو أدركت ذلك لربما ارتفع منسوب العقلانية في خطابك على حساب الإثارة غير الموضوعية.
الواقعة الأهم في الماضي القريب التي سحبت فتيل التفجير الدائم وأوقفت النقاش حول الأدوار التاريخية للطوائف، ووضعت حداً لإعادة كتابة التاريخ كشرط لأيّة تسويّة سياسية، كانت العودة التي تنكّرتَ لها واعتبرتها غير مكتملة، والتي تمتّ من خلال تثبيت مصالحة الجبل في الثالث من آب 2001 ومن خلال اللقاء التاريخي بين غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير بالزعيم الوطني وليد جنبلاط مع ما حمله من معانٍ وأبعاد روحية ووطنية ورساليّة في تكريس تعايش يرقى لمئات السنوات.
لقد كان ميشال شيحا يقول: «في لبنان تكمن إمكانية تفجير العنف الذي لا يمكن احتواؤه إلا بالرأي السياسي الصائب. ولإمكانات العنف حصونها الأساسية في الأرياف بتراثها السياسي العميق الجذور القائم على الأحقاد والشكوك المتبادلة بين مختلف الطوائف. ومصالحة الجبل كانت ذلك الرأي السياسي الصائب.
مصالحة الجبل لم تأتِ في سبيل تعويم لفريق يعاني من مأزق سياسي بل على العكس، أتت في الاتّجاه المعاكس لميزان القوى القائم وشكّلت تحدياً لرغبة سلطة الوصاية القائمة، وساهمت في إنضاج وعي وطني عابر للطوائف وبعيداً عن اصطفافات الحرب. ولا ينتقص من أهمية مصالحة الجبل أنّ التيار الوطني الحر لم يكن عمادها الأساسي، فرمزيّة سيد بكركي كانت كافية لتمثيل كلّ المكوّنات الوطنية مسيحية وغير مسيحية.
إنّ محاولة تقديم التاريخ بطريقة إلغائيّة وشطب كلّ الجهود التي بُذلت في محطات مفصليّة برغم المخاطر الجديّة التي رافقتها، هو مغامرة غير محسوبة ولا تقف مفاعيلها عند انتهاء معارك إنتخابية. وإنّ الإحساس بالقهر الذي توّلده محاولات انتزاع رموز وطنية من اللاوعي لأيّ جماعة لا بدّ أن يعبّر عن نفسه. إنّ البيروقراطيات الإداريّة والإعلام والأناشيد الوطنية لا تكفي وحدها لتحويل الأراضي والبشر الى أوطان. هذا ما تعلمناه من قراءة التاريخ واستخراج الدروس المستفادة.
معالي الوزير في المرة القادمة عندما تذهب الى رشميا لا تنسى أن تنظر إلى مجدل المعوش…..
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات