«في بلدتنا يذهب ديك ويأتي ديك والطغيان هو الطغيان يذهب حكم لينيني ويأتي حكم أميركي والمسحوق هو الإنسان». (نزار قباني)
لا بد من أن تنشط نظريات المؤامرة المتعددة أثناء الملمات الكبرى، وحتى الأدب الشعبي على مدى التاريخ المكتوب، كان يُنسب أحياناً، حتى الظواهر الطبيعية إلى مؤامرة ما!
وفي ظلّ ما يحدث في المنطقة، فإنّ كلّ يوم تخرج نظريات عن مؤامرة منسوجة بخبث في أقبية المخابرات أو الجمعيات السرّية، وبالطبع، فإنّ كلّ طرف يضع المؤامرة في خانة أعدائه، ويعتبر أنها تستهدفه هو من دون سواه، لأنه أشرف وأفضل وإلى ما هنالك من صفات، تجعله المختار الأول بين شعوب الأرض.
ولكن، وإن كان معظم النظريات من نسج الخيال، فهذا لا يلغي وجود مؤامرة ما، حبكتها عقول تحسب بحقد، أو بحيادية، أو حتى بوجدانية صادقة للخير! فالمهم هو تحديد وجه الخطر وشكله، ورسم العدوّ بأبشع ما يمكن، ليسهل أخلاقياً استهدافه، وحصد مكاسب جانبية من هذا الإستهداف قد يكون، في معظم الأحيان، هو الهدف الأساس من المؤامرة.
وقد لا تكون المؤامرة منسوجة في الأساس، وإنما فقد يفتح بعض الحوادث الفرصة لقوى متخاصمة أحياناً، لتتحالف في مواجهة واقع مستجدّ لمجرّد تقاطع مصالحها حول موضوع معيَّن.
وهنا، فقد يخلق العدوّ المقصود بتحالف المصالح ضده، الفرصة لأعدائه لكي يستفيدوا من أعماله، ليس فقط للنيل منه فحسب، ولكن لكسب أمور أخرى قد تكون أكبر بعشرات المرات من هزيمة هذا العدوّ بالذات.
وفي أحيان، فقد تخلق مصالح معينة عدوّاً وتنمّيه وتتركه ليأخذ مداه الأقصى، إلى أن تأتي لحظة القطاف عندما تصبح الظروف مناسبةً لشنّ حرب أو حصار أو عقوبات، لا تطاول هذا العدوّ بالضرورة، بل تصيب أهدافاً أخرى محدّدة مسبقاً، حتى قبل إطلاق العنان لهذا العدوّ الصغير والتافه، والذي يتمّ تضخيم حجمه وصورته في الإعلام، وتُترك له أحياناً المجالات والثغرات الأمنية قصداًَ لكي يرتكب ما يسوّغ الرد عليه بالقوة الساحقة!
الأمثلة في التاريخ المعروف والموثق لا تُحصى، لكن القراء نادرون ليتعلّموا من العِبر، وأحد الأمثلة الكبرى كانت عراق صدام حسين، حيث ترك له العنان في إطلاق حروب الخليج، لا بل تمّ دعمه في الحرب ضد إيران، وربما تشجيعه قبل اجتياحه الكويت!
وعندما تقرّرت المواجهة، ظهرت فجأةً فظائع نظامه وبشاعته، ليتمّ تداولها في كلّ مكان، وأصبحت قرية «حَلَبجة» ضحيّة السلاح الكيماوي، قرّة عين البشرية! وأصبحت حقوق الشيعة والأكراد وحرّيتهم الهمّ الأكبر لبوش الأب والإبن، والديموقراطية وحقوق الإنسان شغلهما الشاغل ليل نهار. والأهم، فقد تحوّل جيش العراق فجأةً القوة الرابعة في العالم، وصارت قصور صدام مخازن للأسلحة البيولوجية والكيماوية، وحتى الذرّية.
في المحصّلة فقد اتّضح اليوم، وبعد سنوات من اجتياح العراق، وممّا نراه من نتائج وكوارث، أنّ القضية في الأساس ما كانت إلّا مجرّد تقاطع مصالح تديرها عقول بالغة الحيادية في أحكامها، تستفيد من المشاعر المتأجّجة حقداً حيناً، وحباً حيناً آخر، لملايين البشر…
ما لي أنا ولكلّ تلك الإطالات المضنية، فالحديث هو في الأساس عن «داعش»، وعن طريقة إدارة توحّشها المتلفَز والمنشور في كلّ وسائل التواصل الإجتماعي، لخدمة تقاطع مصالح لقوى محلّية وإقليمية ودولية.
منذ أقل من ثلاث سنوات، كانت الأكثرية الساحقة من قادة العالم تتجنّب بشار الاسد، وذلك التزاماً منها «بحقوق الإنسان والديموقراطية». كان ربما «كيم جونغ أون» و»علي خامنئي»، الصديقين الوحيدين اللذين بقيا على صحبتهما للأسد.
كان أيضاً «باراك أوباما» قابَ قوسين من إسقاط الأسد بالضربة القاضية، وكان «فلاديمير بوتين» يبدو خارج الحسابات الدولية، وكانت كلّ القوى التي جنّدتها إيران على شفير الإنهيار الكامل في مختلف الجبهات السورية.
لا أحد منا، البشر العاديون، يفهم كيف ظهرت «داعش» فجأة، وكيف صارت دولةً خلال بضعة أسابيع، وكيف احتلت مدناً كبرى ومنابع نفط تحت أنظار عشرات الأقمار الصناعية المسلطة دائماً فوق سوريا والعراق، وصار لديها العدد والعدة لتواجه قوى جبارة، ليس فقط على أرض المعركة، بل أصبحت تقاتل تلك القوى في عقر دارها!؟
المهم بعد ذلك هو أنّ الأسد تعافى فجأةً ما أدّى إلى عزلته، وعاد مشروع ولاية الفقيه ليتفرعَن، وأصبحت روسيا اللاعب الأول في المنطقة بعد سنوات من العزلة.
في المحصلة، فإنّ المستفيد الاكبر من «داعش» كما يبدو اليوم هو مجموعة من المنظومات المتسلّطة تمتدّ من إيران عبوراً بالعراق وسوريا وتركيا وصولاً إلى روسيا، وكلّهم في النهاية مديونون اليوم بإنتعاشهم إلى «داعش»، ومَن يدري، فقد يتحوّل «أبو بكر البغدادي» بطلاً من أبطال هذه المنظومة؟