IMLebanon

مِن إنقاذ رأس الأسد إلى ضمان مستقبله

سيكتشف المخدوعون بالتسوية في سوريا، أنّهم وقعوا مرّةً أخرى ضحية الوهم الروسي – الإيراني، تماماً كما في جولات سابقة.

رمى الروسُ مبادرتهم على الطاولة في اللحظة المناسبة. فمنذ مطلع السنة، وهم ينظّمون اللقاءات التشاورية لسوريّي النظام والمعارضة والسعوديين والأتراك، لدفعِ الجميع إلى جنيف ـ 3، حيث يأملون في أن ينتزعوا اعترافاً منهم بأنّ الرئيس بشّار الأسد هو القيِّم على سوريا ومستقبلها.

وسعى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونائبه المحنّك في شؤون الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف، إلى إقناع الرياض وأنقرة بالانضمام إلى المؤتمر، إلى جانب إيران ودوَل الجوار السوري ومصر، وبرعاية الأمم المتحدة لكي تكون للقرارات تغطية كاملة، فلا يتكرّر فشل جنيف 1 (2012) وجنيف 2 (2014).

في جنيف، المشكلة هي إياها دائماً: السعوديون والأتراك يريدون حلّاً بلا الأسد، وموسكو وطهران تريدان أن يكون الأسد هو مستقبل سوريا. وبدا الأميركيون أقرب إلى «صيغة مطاطة» تقول بأن يكون الأسد جزءاً من المرحلة الانتقالية فقط، كحلّ وسط. لكن لا مجال للّعب على الألفاظ في نزاع مصيري.

في المرحلة السابقة، كان الجميع سكراناً بالحسم العسكري، وأعلن وزير المصالحة السورية علي حيدر في وضوح: «الأزمة لن تحلّ في جنيف 1 أو 2 أو 3 أو 4… بل بانتصارنا العسكري». وفي المقابل، تفاءلت الفصائل المعارضة بإسقاط النظام.

ولكن، لم ينتبه كثيرون إلى أنّ الأسد، في معمعة البحث العبثي عن تسوية، مرَّر «انتخابات رئاسية» أتاحت له تجديد الولاية بغطاء دولي كان وفَّرَه له اتفاق كيري- لافروف بعد أزمة السلاح الكيماوي.

لقد أتقنَ الأسد وحليفاه الروسي والإيراني، اللعب على التناقضات والإفادة من الإرهاب التكفيري لتجاوز القطوعات، وإنقاذ الرأس. وبعد 5 أعوام، لا مؤشّرات إلى إمكان سقوط الأسد. وفي أفضل الحالات، يمكن خصومه أن يسيطروا على بعض سوريا، وأمّا العاصمة وأجزاء أخرى فدونَها خطوط حمر دولية.

ولذلك، وجَد الروس فرصةً لتحريك مبادرتهم، وفي يقينهم أنّ الظروف تساعدهم:

1- إتّفاق إيران والغرب حول الملف النووي سيَدفع بالسعوديين والأتراك إلى خفض سقف شروطهم في سوريا، خصوصاً بعد تغيير العهد السعودي وتراجُع أردوغان في الداخل التركي.

2- إقتناع مختلف الأطراف بالعجز عن الحسم عسكرياً في سوريا، إذ باتت المعارك عبثية وبلا أفق زمني.

لطالما كان هاجس روسيا الأكبر هو تفكُّك سوريا والعراق وقيام دويلات إسلامية متطرّفة على أنقاض الدولتين. فروسيا هي عبارة عن فسيفساء دينية وعرقية. وعدوى الدويلات الإسلامية قد تنتقل سريعاً إلى تركيا ومنظومة الخليج العربي. ولذلك، يحاور الروس كلّاً من تركيا والسعودية في اعتبارهما شريكتين في مواجهة التقسيم في سوريا.

والهواجس إيّاها هي التي دفعَت تركيا إلى مواجهة الأكراد و»داعش» على حدّ سواء. فالأتراك يمتلكون معلومات كافية عمّا يحضّر له حزب العمّال الكردستاني في الشمال السوري والداخل التركي. وأمّا «داعش» فخرَجت من «جَيب» تركيا وأعلنَت، بعد تفجير سروج، بأنّها ستمدُّ «دولة الخلافة» لتبلغَ اسطنبول.

إذاً، ضربُ «داعش» والتصدّي لتقسيم الكيانات الشرق أوسطية هو اليوم الهدف الجامع لروسيا وتركيا والسعودية. وأمّا إيران فتشارك هؤلاء رغبتَهم في مواجهة التقسيم، لكنّها لا تشعر بالقلق على وحدتها الداخلية بمقدار ما يشعرون.

ولذلك، إنّ أولوية إيران هي أن يحتفظ حلفاؤها بالسيطرة، سواءٌ في اليمن أو في العراق وسوريا أو حتى في لبنان. لكنّها تعتبر التقسيمَ أهوَنَ الشرّين إذا وصلَ هؤلاء الحلفاء إلى الهزيمة الكاملة. فإيران تفَضّل الاحتفاظ بالجزء عندما تواجه خيار خسارة الكلّ. أي إنّها تفَضّل في سوريا أن يقيمَ العلويّون دولتهم هناك إذا كان الأسد سيخسَر السلطة على سوريا.

وليس الروس أقلّ تشَبُّثاً بالأسد. وهم أيضاً يفضِّلون احتفاظه بجزء من سوريا إذا كان سيتعرَّض لهزيمة شاملة. لكنّهم يدركون أنّ الأسد ليس في وارد السقوط، بفضل خطوط حمر دولية كرّسَها اتفاق كيري – لافروف قبل عامين.

وفي الخلاصة، تسير المبادرة الروسية اليوم بين حَدَّين:

– في الحدّ الأقصى، تأمين مستقبل الأسد بتكريسه جزءاً من المرحلة الانتقالية ثمّ تثبيته في الحلّ النهائي.

– وفي الحدّ الأدنى ضربُ «داعش» وتسليم المناطق التي تسيطر عليها اليوم إلى المعارضة السنّية المعتدلة، بحيث لا تكون الدويلة الناشئة مُصَدِّراً للتطرُّف ولا تشكّل تهديداً لاستقرار الكيانات الإقليمية وروسيا.

ويعوِّل الروس على استئناف المشاورات في موسكو خلال أيلول المقبل، تمهيداً لجنيف 3، لكنّهم يدركون أنّ التسوية ستفشَل دائماً، لأنّ أيّاً مِن الطرَفين لن يتنازلَ للآخر، مهما كلَّفَ الأمر: لا السعوديون والأتراك سيقبَلون بـ«تأبيد» الأسد على سوريا، ولا هم، أي الروس، وطهران سيقبَلون إلّا بـ«تأبيد» الأسد. والمخرَج الوحيد الممكن هو: تقاسُم السلطة وتقاسُم سوريا.

فهل بدأ ينضَج التقاسم، وهل في هذا الإطار تقوم تركيا بتقزيم «داعش» وتسليم مناطقها لـ«المعارضة المعتدلة»؟ أم إنّ المبادرة الحالية ليست سوى محطة في النزاع أو استراحة بسيطة للمحارب، كما يجري عادةً في الحروب المعقَّدة والطويلة الأمد، والتي اختبرَها اللبنانيون جيّداً على مدى عشرات السنين؟