IMLebanon

من الجنوب إلى القلمون.. الرحلة الأخيرة

يُشبّه الجنوبيّون وتحديداً الذين يُعرفون بسُكّان الشريط الحدودي، قُراهم وبلداتهم هذه الأيام بالمستوطنات الإسرائيلية، لناحية الهدوء الذي يسكنها بعدما هجرها شُبّانها إمّا طوعاً أو إكراها باتجاه القلمون السوريّة، بعدما دعاهم «الواجب الجهادي» للالتحاق بجبهات الدم والاستنزاف، متأرجحين في دعوتهم هذه بين حياة تتمسّك بربيع أعمارهم وموت يلاحقهم، لكنّهم عبثاً يحاولون الإفلات منه.

لا يسرّ حال الجنوبيين عدواً ولا حبيباً. نظرات خوف تسكن عيون الأهالي، تبحثُ عن «مُقاومين» كانوا حتّى الأمس القريب يتوزّعون بين الوديان وقمم الجبال، قبل أن تختفي آثارهم وتنتقل أرض جهادهم إلى أمكنة أخرى ويُصبحون مجهولي المصير، فلا يجد الأهل غير الطيور العابرة يحمّلونها رسائلهم إلى أحبّة طال انتظارهم منذ أن غادروا منازلهم على حين غرّة خشية أن تضعف إرادتهم أمام عيون أطفال لا تعرف غير الدموع وسيلة للتعبير عن وجع الفراق.

قُرى بدت ساحاتها شبه فارغة من شبّان تعوّدت حضورهم قبل مغيب شمس كل يوم وأصوات غابت عن السمع وحلّ الصدى مكانها، وحدها دعوات الأهل وصلوات سبحاتهم بعودة أبنائهم سالمين احتلّت الأمكنة والزوايا ومعها تحوّل انتظارهم عند باب الدار إلى تقليد يوميّ علّهم يلمحون فيه زائراً آتياً من بعيد أو يسمعون بوصول أحدهم من سوريا، فيذهبون إليه علّه يحمل اليهم خبراً عن ولدهم يكون بمثابة تخدير ولو لساعة واحدة.

لا يختلف المشهد بين قرية وأخرى ولا الوجع يتبدّل من مكان إلى آخر. قصص تتكرّر على الدوام حتّى تبدو وكأنّها في القرية ذاتها أو في المنزل الواحد. نعي «الشهداء» في الجنوب أمر متواصل على مدار اليوم عبر مُكبّرات أصوات المساجد و»الحُسينيّات»، والأصعب بين هذا وذاك إجبار الأهالي على تلقّي «التبريكات» لا إقامة المآتم وتقبّل واجب العزاء، ومع هذا تبقى هناك حالات رافضة لكل هذه الشعائر وتُصرّ على ممارسة قناعاتها رغم تمنيّات المسؤولين المُغلّفة بعتب يصل في بعض جوانبه الى حد «التكليف الشرعي«.

الشباب بـ»الشغل». عبارة تتردّد على ألسنة الجنوبيين لدى سؤالهم عن أبنائهم علماً أنهم بينهم وفي قرارة أنفسهم يتمنوّن لو أن هذا «الشغل» ينتهي اليوم قبل الغد وتعود حياتهم إلى طبيعتها خصوصاً وأنّهم العارفون بأن قرار الذهاب للقتال عن الحدود المُلاصقة لهم، لم يكن بأيديهم تماماً كما كان حال سيدة من بلدة «قبريخا» وقفت عاجزة أمام منع ولدها الأصغر ابن الثلاثة والعشرين عاماً، لديه طفل لم يتجاوز السنة من عمره، من الالتحاق بإعلام «حزب الله» الحربي وهي التي كان استشهد لها ابن في «المهنة« نفسها في العام 2004 أثناء تصويره عمليّة بالقرب من الحدود مع اسرائيل. يومها كان للشهادة برأيها «نكهة عزّ ولون من ألوان النصر«.

تأمّلت السيدة في عيون ولدها قبل أن يُدير ظهره للمنزل ويُغادر الى المجهول. اشتمّت رائحته ثم ضمته الى قلبها وبكته بحرقة وكأنّه يقين منها بأنه لن يعود. أخرجت الوالدة كل ما في صدرها وكأنّها تُعبّر عن حرقة قلب امّهات مررن بالموقف نفسه. توجّهت الى الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله وهي تقول: «السيد بيعرفني بالاسم والصورة وبيعرف ابني الشهيد، أناشده ان يوقف هذا النزف وأن يرحم الأهالي من وهم الانتصارات«، وطالبته بإعادة كل شاب لعائلته وأهله قبل يأتي وقت ويحمّلونه دم أبنائهم، ثم سألته: «لماذا لا تُرسل إيران جيشها الى سوريا بدلاً من شبابنا؟«.

رد الجميل للبقاعيين هو العنوان الأبرز الذي يرفعه «حزب الله» داخل مجالسه وندواته في الجنوب اللبناني. يدعو الحزب الشُبّان الى حمل البنادق والسعي الى التدريب ثم الالتحاق بالحرب تحت ذريعة أن ابن البقاع لم يتأخر في الدفاع عن أرض الجنوب والاستشهاد فيها ضد إسرائيل، ومن هذا المُنطلق يُطالبهم برد الجميل والموت داخل الأراضي السوريّة وكأنّه يوازي في هذا الامر بين الإسرائيلي وبين السوري صاحب الأرض التي اعتدى الحزب عليها وقتل شعبها وشرّده.

لن يُحمّل زائر الجنوب هذه الأيام ذاكرته أكثر مما تحتمل. أوجاع تمتد على مساحة الأقضية وصور لآلاف القتلى تتوزّع على مداخل القرى وفي داخل أحيائها. منتزهات ما بعد حرب تمّوز بدت خالية تماماً من الروّاد، فحوّلت صالات أفراحها إلى صالات للمآتم والعزاء بعدما أصبح هذا المشهد الأكثر رواجاً. السيدة العجوز ابنة بلدة قبريخا، اختصرت كل آلام وأسى الجنوبيين بقولها: «ما زلنا نرتدي اللون الأسود منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وفي كل عام نقرّر فيه نزعه نرى أنفسنا أمام موت جديد وأمام قصّة لشُبّان يأبى هذا الشغل أن يتركهم لحياتهم وحياة عائلاتهم«.