فاجأت إيران الراهنة والمراهِنة وبلسان الأمين العام لـ «حزب الله» السيّد حسن نصر الله أهل القرار العربي وهم في طريقهم إلى «شرْم الشيخ» لعقد قمتهم الدورية السادسة والعشرين يحدوهم الأمل بمداواة النزف الحاصل في بعض كيانات الأمة، بقذائف كلامية إعتادت الأمة ماضياً على سماعها من إذاعيين وإعلاميين من أصحاب الصوت العالي، وفي إستمرار لم ينتج عن هذه القذائف سوى المزيد من التعقيد في العلاقات وذلك لأن هذه القذائف تكون خالية من التوازن كونها ترى نصف ما في الكأس على حدّ التشبيه المعروف وبعيدة عن جوهر الأزمات، فضلاً عن أنها تأخذ المنحى الشخصي غير عابئة بالأصول.
ولقد كنا نتمنى لو أن مثل هذه المهمة التي أوكل النظام الإيراني القيام بها إلى نصر الله لم يقم بها السيّد حسن، أو في الحد العقلاني ينأى بنفسه عن أسلوب أصحاب الصوت العالي من إذاعيين وإعلاميين.. إلاَّ إذا كان السيّد في أدائه هذه المهمة يرى أن «عاصفة الحزم» التي يهزأ بها ربما ستكون مثل عواصف الطبيعة التي تبدأ بنقطة في أقاصي المعمورة لكنها بالتدرج تصل إلى لبنان. وهذا عشناه في الشهريْن الماضيْين. وفي حال كانت هذه تقديراته فإنه بالخطاب المتعجل المطرَّز بما تيَسَّر من التجني كان عدائياً في حق الدولة المعوَّل عليها في زمن القحط العربي وفي ترميم ما ينشأ عن مغامرات الثوريين وإجتهاداتهم، ونقصد بهذه الدولة المملكة العربية السعودية التي لولاها ولولا بطولات أهل الإنتفاضة في غزة والضفة والمقاومة في لبنان والقيادة الحكيمة والمحنكة للرئيس محمود عباس لكانت شرايين القضية الفلسطينية تيبست وضاع الحق إلى الأبد. كما أن السيّد حسن في هذا الخطاب الذي ألقاه بدا كمن يريد الإيحاء بأن «لبنان حزب الله» ليس مثل «يمن أنصار الله» وأنه يستبق ما يلخصه القول الشهير «أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض».
ثم إن التريث في إسداء هذه النجدة اللفظية إلى ما بعد إنتهاء أعمال القمة العربية الدورية في «شرْم الشيخ» كان من شأنه أن يوفّر على السيّد حسن إطلاق هذه القذائف التي أطلقها، خصوصاً أن المسارعَة لن تغيِّر شيئاً من القرار الخليجي – المصري- الأردني – السوداني – المغربي – التركي – الباكستاني الذي يستهدف معالجة الحالة اليمنية. وأما التريث فإنه كان سيجعل السيّد لا يتصرف على طريقة الإذاعيين والإعلاميين في إلقاء تعليقات صارخة، تُعطى التوجيهات من الأعلى في شأنها. وفي هذه الحال يكون المذيع المعلِّق مجرّد متحدث.
والقول إن التريث كان أجدى وأكرم للمهابة، على أساس أن أهل القمة العربية وبالذات أولئك الذين يصنعون المواقف والقرارات لم يأتوا على ذكْر إيران في معرض كلامهم عن الأزمة في اليمن. ونلاحظ أنهم عندما كانوا يصلون إلى حيث تسمى الأمور بأسمائها (بإستثناء الرئيس عبد ربه منصور هادي الملدوغ من التدخل الإيراني) فإنهم يتفادون كلمة «إيران» أو النظام الإيراني ويضعون بدل ذلك قولاً أو على الورق عبارة «قوى إقليمية» أو «دولة إقليمية» والفرق كبير بين التسمية الصريحة والتسمية بالإيحاء. وهم بما فعلوا يريدون تحقيق نوع من التآلف وتقريب إيران من رؤيتهم بأن تكون الجارة التي لا تتدخل ولا تقوِّض بتدخلاتها عن طريق أطياف في هذه الدولة أو تلك، مثل الطيف الحوثي ، المعادلة التي تُبقي العلاقات بين دول المنطقة في دائرة الإستقرار النسبي.
ومثل هذا التآلف الذي نشير إليه بات في ضوء ما جرى للمغامرة الحوثية في اليمن وما سبق وجرى لسوريا من نظامها ومن كوكتيل الإنتفاضة على النظام، هو ما يتمناه الجمهور الملتف حول قيادة السيّد حسن، والذي بعدم مجاهرته في ذلك وأيضاً المجاهرة بالدور الذي إستُدعي السيّد حسن لتأديته في سوريا، لا يعني أنه لا يتطلع إلى حالة من التآلف تمهد، ومن دون مواجهات كتلك الحاصلة في اليمن بعد سوريا، إلى تدارُك أمر الوضع الإقتصادي الذي يعيش حالة من الذبول غير مسبوقة فلا ينهار دفعة واحدة. ولو تجول السيّد حسن خفية كما طريقة حكام الزمن الغابر، في منطقة الأسواق التجارية لكان قلبه تفتت على هذه الجنة المهجورة بسبب هواجس السلاح والعناد والمحاججة حول رئاسة الجمهورية المهجور قصرها كما أسواق بيروت من أجل خاطر «الرئيس المناسبِ» الجنرال ميشال عون توأم السيّد الحوثي في اليمن ومثيل الرئيس السابق علي عبدالله صالح من حيث التحالف الملتبس.
وثمة حقيقة أساسية وهي أن السيّد حسن بالقذائف الكلامية التي إستعجل إطلاقها صوَّب على الدولة التي تدين الشرعية اللبنانية في بقائها لها، مما يعني أن السعودية كانت تتمنى لو أنها بدل إضطرارها إلى «عاصفة الحزم» وجدت أهل الأزمة اليمنية يلتقون في الرياض تحت خيمة المبادرة الخليجية على نحو لقاء رموز العمل السياسي اللبناني في الطائف في أيلول 1989، ويحقق أهل اليمن ما حققه اللبنانيون قبل 26 سنة ذلك أن السعودية شعباً وملكاً وأمراء وعلماء بما تقدمِّه من أجل فلسطين هو الذي أبقى لها شرعيتها، والتبدل المتدرج في الموقف الدولي نحوها، كما ترى أن خير تعامُل هو الذي يتم بين الشرعيات وهذا ما رأينا قمّة «شرم الشيخ» تحترمه، بل إن القوة العسكرية العربية المشتركة ولمن يشاء الإشتراك فيها إنما هي لإبقاء الشرعيات في منأى عن المغامرين – المقامرين أمثال الجماعة الحوثية التي نتمنى أن يتعظ أمثالها من حيث التكوين والإنتماء والقوة المسلحة والولاء الخارجي، فلا يُرمى الوطن والشعب بما لا ترضاه دولة إسلامية كبرى مثل إيران للشعب الإيراني إلاًّ أنها بسبب مشروعها وثاراتها الغابرة الناشئة عن الحرب مع العراق وما إنتهت إليه تلك الحرب من ندبات في وجه العهد الثوري الخميني، تتسبب في حالات من عدم الإستقرار النفسي والأمني في دول المحيط العربي عموماً والخليجي بشكل خاص. وهذه الحالات تنعكس على الأوضاع الإقتصادية ومصالح النّاس وتتسبب في إفقار كرام القوم وتودي بكيانات إلى مشارف الهاوية على نحو ما هو حاصل في سوريا وكان مرشحاً للحصول في اليمن قبل أن تهب «عاصفة الحزم» التي تجمع بين أنها دفاع عن النفس والكيان وبين أنها دفاع عن العروبة التي ينحسر وهجها أمام أشعة المشروع الإيراني. وهذه العاصفة تجعلنا نستحضر الضرورة التي جعلت الرئيس العراقي (الراحل) صدَّام حسين يخوض رادعاً وليس غير ذلك مواجهة مع إيران بعدما رأى أن المشروع الثوري الخميني يطرق الأبواب الحدودية وعلى نحو طرْق الحوثيين الأبواب الحدودية مع السعودية. وكما إلتف الخليجيون حول صدَّام حسين عام 1988، يلتفُّون بعد 27 سنة حول قرار إتخذه الملك سلمان بن عبد العزيز الذي هو من أهل التبصر في إتخاذ الخطوات وبحيث أنه لا يُقدم على قرار من نوع «عاصفة الحزم» إلاَّ بعد إستنفاد محاولات العلاج بالحسنى. ومَن يتابع إيقاع إدارته للأمور وتعامُله مع الصعب منها يلاحظ ذلك.
لقد إنتهت قمّة «شرم الشيخ» إلى أنها «قمة الترميم».. ترميم الشرعية من «طائف» الملك فهد إلى «عاصفة» الملك سلمان وفاتحة عهد عربي يمكن أن يكون عنوان مرحلة من الإستقرار لمن يؤثرون الوطن والشعب على شخص الواحد منهم، فلا خروج على الدستور والشرعية والصيغة مع إعادة النظر المتدرجة في ما هو بحاجة إلى إعادة نظر.
وكما أن القمة العربية في القاهرة التي كانت أُولى إنطلاق فكرة التشاور العربي من خلال قمّة يعقدها الملوك والرؤساء وهذا ما فعله الرئيس (الراحل) جمال عبد الناصر الذي إستضاف عام 1964 قمتيْن متتابعتيْن ومثمرتيْن في سنة واحدة (القمة الأولى في القاهرة 13 – 16 كانون الثاني والقمة الثانية في الإسكندرية 11- 16 أيلول) فإن القمة العربية الدورية السادسة والعشرين التي إستضافها الرئيس عبد الفتاح السيسي في «شرْم الشيخ» كانت هي الأخرى مثمرة، حيث أنها أضاءت بعض الشيء في ليل سياسي عربي مقلق فإنتهى الخصام المصري – القَطَري وتأسست فكرة قوة عسكرية مشترَكة أهم ما فيها أنها تغني عن التدخل العسكري الأجنبي. ومن هنا يجوز الإفتراض أن مثل هذه القوة تفصل بين النظام السوري والمنتفضين عليه ربما تحقق إقتناعاً مشتركاً بأن الحل السياسي هو الأفضل وأن الأخذ به يتم عندئذ في ظل رقابة عربية – دولية لإنتخابات يلتزم الجميع بنتائجها ومَن لا يلتزم وربما يتمرد على نحو ما فعلت الجماعة الحوثية في اليمن فإن القوة العسكرية العربية تعالج الأمر بالصلاحيات المعطاة لها، مما يعني أن هذه القوة هي من أجل صوْن الإستقرار. وعندما يبقى مقعد سوريا في قمّة «شرم الشيخ» شاغراً ومن دون تمكين المعارضة من إشغاله، فتلك رسالة إلى النظام والمعارضة معاً بأن كفى صولات وجولات وتعالوا إلى كلمة سواء.
وأما الجانب الفلسطيني الذي يمثِّله الرئيس محمود عباس والذي تكسّرت عليه السهام الكلامية من جانب السيّد حسن. والجانب الآخر الذي تُمثَّله حركة «حماس» المتمكنة من غزة فهذه القوة العربية فرصة تاريخية لها تُبعد عنها إعتداءات إسرائيل.. إنما شرْط ألاَّ يتصرف قادة «حماس» على نحو التصرف الذي فعله الحوثيون في اليمن ونتمنى أن لا يفعله ذات يوم «حزب الله» في لبنان.
وفي إنتظار القمة العربية السابعة والعشرين بعد سنة في المملكة المغربية العريقة في موضوع إستضافة القمم الصعبة في بعض سنوات الملك (الراحل) الحسن الثاني نتمنى لرئيسها الحالي عبد الفتاح السيسي سعياً محموداً وإنجازاً لما هو عالق من المسائل التي في حال تسويتها سيكون المواطن العربي حامداً شاكراً في رحاب الأمة التي هي خير أمة أُخرجت للناس. كما نتمنى وقفة مع النفس من جانب السيّد حسن يراجع فيها ما قاله عن المملكة التي نراها ويراها ضمناً دائماً متجاوبة في الملمات العربية والإسلامية ماضياً وحاضراً… ودائماً.