ليس هناك، في فترة ما بعد الحرب الباردة، لحظة تصدّرت فيها الجماهير المشهد كمثل الذي حدث في عدد من البلدان العربية، يتجاوز مجموع سكانها أكثر من نصف مجموع العرب، عام 2011. وليس هناك لحظة يصعب ان ترجح، والى حد ما ان تميّز، بين عناصر انشطارها وتضعضعها وكبوتها، وبين آليات نخرها وشيطنتها وسحقها كما تلك اللحظة التي كان الرائج وقت نشوبها وانتشارها وسطوعها التشديد على عدم كفاية تعبير «الربيع العربي» لوصفها، وجرى لاحقاً الاستكثار عليه هذا التعبير.
وليس هناك لحظة عربية شاملة استطاعت التركيبة اللبنانية صدّ نفسها، بالمجمل، عنها، قدر تلك اللحظة.
في اللحظة التي بدت فيها شعوب الأمة الجامعة تسير نحو الحرية، وجد البلد نفسه عالقاً في القميص الأسود أكثر من ذي قبل. انقسم البلد حول الثورة السورية، لكنه انقسم بلا روح. من راهن على خط الثورة فعل ذلك للخروج من مجموع أزماته الداخلية، ومن تدخل بالسلاح لإنجاد النظام فعل ذلك كامتداد لاستقوائه بالسلاح على غيره من اللبنانيين. شيئاً فشيئاً، ظهر ان التوازن الكارثي سيد الموقف في البلدين. في سوريا نظام لا يتمكن من إخماد ثورة وثورة محكومة موضوعياً وذاتياً بعدم التمكن من الاطاحة بنظام دموي وخبيث. في لبنان، ورغم مسلسل الاغتيالات والتفجيرات والاشتباكات في عاصمة الشمال، بدت الدماء محقونة أكثر، من دون ان نغفل الفاتورة الدامية التي تكبّدها «حزب الله» في المشتعل السوري.
لا يعني التوازن الكارثي في الحالتين تعادلاً، لا سياسياً ولا أمنياً. بالمجمل العام، بقي المحور الذي تقوده ايران، وينضوي تحته نظام آل الاسد وحزب الله، اكثر قدرة على التحكم بالمسارات من أخصامه.
لم تنحصر الثورة المضادة بمحور اقليمي واحد، ولا بأيديولوجيا واحدة. لكن، بالمجمل العام أيضاً، كان الوضع في سوريا هو مرتكز كل ثورة مضادة لحركة الجماهير العربية لعام 2011.
رغم كل شيء، اتاح اتساع مدى انهماك «حزب الله» بالحرب السورية للبنانيين التنفس في هذه السنوات. مع منسوب سياسي واجتماعي من ارتفاع القلق في نفس الوقت. فمن جهة، لا انتخابات بعد 2009، وفترات من الشلل والفراغ الحكوميين ثم عامين ونصف العام من الشغور الرئاسي. ومن جهة ثانية، تداعيات الحرب السورية، وتهجير مئات الآلاف من السوريين باتجاه لبنان، خاصة في المناطق التي مشّطها «حزب الله» في سوريا، التي سجّلت من ريف حمص الى القصير والقلمون تفريغاً سكانياً اكثر من غيرها من المناطق في سوريا.
التدخل الروسي من جهة، وتركيز الغرب اولويته على محاربة «داعش» من جهة ثانية، وتمكّن النظام من البعثرة السكانية للمجتمع السوري من جهة ثالثة، كل هذا اعطى للنظام ما لم يكن يحلم به عام 2011. في نفس الوقت، لا تكاد العين الايرانية او الروسية تشرد، حتى يظهر ضعف النظام بشكل واضح جليّ. لم يعد قادراً على النوم لوحده. فكرة ان العالم سيطبّع تماماً مع هذا النظام هي ما يرغبه النظام اكثر منه ما ترغبه حكومات العالم.
لم نعد لبنانياً في لحظة 2005، وعربياً في لحظة 2011. بشكل عام، الهرم الذي كان يميل للجذرية في التغيير السياسي انقلب على اعقابه. صارت الاولوية في البلدان العربية للحريات السياسية على المشاركة السياسية، وللمشاركة على التغيير السياسي. معادلة لها ترتيب مختلف بالنسبة الى كل بلد. لكنها تعني في كل الحالات ان فضاء حراً يمكن ان تطرح فيها مقاربات مختلفة ومتجادلة مع بعضها، فضاء يتمتع رواده بالحقوق والحريات بات عنوان التحدي السياسي، خطاباً أو انتخاباً.
من الكاريكاتوري تصوير هذه المرحلة من تاريخ لبنان والمنطقة بأنها مرحلة «ولّى زمن الهزائم»، أياً كان منظار النصر والهزيمة. من السيئ الانصراف الى الانهزامية، او في المزايدات. ينبغي مصارحة الذات. إنها مرحلة دفاع عن الحدّ الأدنى من الحق بالعيش بحرّية وكرامة. هناك هجمة على الحرية السياسية يختلف شكلها في كل بلد، ولبنان الذي حُكي الكثير عن ازدهار الحريات فيه مقارنة بضعف ديموقراطيته، يجد هذه المساحة محاصرة اكثر من ذي قبل، ليس فقط بسبب هيمنة السلاح اللاشرعي، بل ايضاً بسبب من الغلاظة المعممة الناهرة عن افساح المجال للتداول بموضوعات الخلاف والاختلاف بوضوح وروح ايجابية. كم السلبية والتشنّج، بل افتعال التشنّج، مهول اليوم. كم المزايدة ـ لو كنت مطرحك لكنت نابليون أو غاريبالدي ـ أيضا زاد عن كل معقول.