IMLebanon

عن المخاوف من رئاسة ترامب

ماذا لو أصبح دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة عند انتهاء الانتخابات الأسبوع المقبل؟ أية رئاسة ستكون رئاسة هذا الرجل الذي ركب موجة استياء الأميركيين من الطبقة الحاكمة، ومن أداء الحكومات المتتالية، ومن العلاقة المريبة بين أهل الحكم وأهل المال؟ يخشى كثرٌ من الأميركيين ويتمنى آخرون مثل الطبقة الحاكمة في روسيا، رئاسة تؤدي إلى تفكيك البنية الأميركية بما يؤدي إلى انهيار تدرجي للولايات المتحدة، نتيجة اعتباطية القرار وبهلوانية الأداء وتلك الكراهية والعنصرية التي ميّزت مواقف ترامب منذ طرح نفسه مرشحاً للرئاسة الأميركية، والتي يخشى هذا الشطر من الرأي العام الأميركي أنها ستلازمه إذا أصبح رئيساً.

لكن شطراً آخر من الرأي العام يعتقد بأن في حال أصبح ترامب رئيساً، ستتبناه تلك المؤسسة التقليدية الحاكمة عملياً وستلتف عليه لتكبله من حيث لا يحس بالقيود ولا يدري. هكذا هي قوة الطبقة الحاكمة عملياً بمن تضمهم من قوى مدنية وقوى عسكرية وقوى استخباراتية داخل الحكومة وخارجها. «وول ستريت» في نيويورك لا يقل ثقلاً عن وزارات واشنطن في توجيه مستقبل أميركا في عقر دارها وفي العالم. كانت شركات كبرى مثل «جنرال إليكتريك» أمس في طليعة الصناعات الفاعلة في المؤسسة الحاكمة، واليوم ينافسها أمثال «غوغل» و «فايسبوك» وما يتم تدبيره سراً في وادي السيليكون في كاليفورنيا. فإذا أمضى ترامب رئاسته المفترضة وهو يفتح جبهة حرب مع كل جهات المؤسسة الحاكمة وطبقاتها، وجبهة ثانية لطرد 10 ملايين مهاجر غير قانوني يعيشون الآن في أميركا، وجبهة ثالثة ضد النساء والمسلمين والملوّنين لاتينيين كانوا أو آسيويين، سيجد نفسه سريعاً غير قادر على القيادة الداخلية مهما افترض أن صداقة مميزة بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سترفع عن أكتافه أعباء القيادة الخارجية. أما إذا وصل البيت الأبيض هادئاً وواعياً لما تعنيه رئاسة دولة عظمى، بما يتعدى التهريج الانتخابي، فقد يطّلع العالم على أسرع عملية انقلابية يقوم بها ترامب على ترامب ليصبح فعلياً شريكاً لمن سبق وجعل منه هدفاً لتعابير الغضب والاستياء الشعبوية. المشكلة أن من الصعب جداً التنبؤ بأي ترامب ستنتج الانتخابات الرئاسية في حال فاز بها، وهنا تكمن الخطورة. فهو ليس متدرّباً على القيادة ولا خبرة له في الحكومة، ولا يتمالك أعصابه معظم الأحيان، ويرمي كلامه من دون وزنه مسبقاً. شخصيته فيها الكثير من الغرور والفوقية وهو لا يحسن الإصغاء ولا يستمع إلى النصائح. لذلك، يخشى العالم، وجزء كبير من الأميركيين، فوز ترامب بالرئاسة الأميركية.

يوم الجمعة الماضي، حرّك مدير مكتب التحقيقات الفيديرالية جيمس كومي البوصلة الانتخابية عبر زلزال إعلانه إعادة النظر في بريد هوما عابدين المساعدة المقربة من مرشحة الحزب الديموقراطي هيلاري كلينتون، ما أعاد إلى الأذهان التهم بأن كلينتون تجاوزت القانون عندما كانت وزيرة خارجية ببناء شبكة بريد إلكتروني خارج الشبكة الحكومية الرسمية. أدى ذلك الإعلان إلى تحقيق ترامب قفزة في الاستطلاعات وتقدمه على كلينتون في بعض منها. ودب الحماسة في معسكر ترامب وتقدمه في معسكر الناخبين المترددين الذين تحتاجهم كلينتون.

أميركا منقسمة على نفسها، بلا شك، بل إن الخلافات امتدت إلى العائلة الواحدة بين غاضب من كلينتون وتلازم سمعتها مع الفساد في رأيه، وبين خائف من بهلوانية ترامب الذي يعتبره ساذجاً، بل جاهلاً بغباء، في رأيه هو الآخر.

كثرٌ من الأميركيين يتحدثون عن الخيار السيء بين «الجهل والفساد». لكن هناك معسكراً ثابتاً وراء كلينتون وآخر وراء ترامب، كلاهما متمسك بمرشحه وعازم على هزيمة الآخر. ما يخشاه المراقبون لهذه الحملة الانتخابية الرئاسية التي تميّزت بالقدح والذم وانعدام الاحترام والهجوم لأسباب شخصية، هو استمرار هذه الأجواء بعد انتهاء الانتخابات. وهذا سيضع أميركا في شبه حرب أهلية على نار خفيفة في تطور لا يمكن تجاهله.

ما تنذر به الأجواء أن أياً من المرشحين، إذا فاز، سيلقى الكراهية والاحتجاج وسيجد أن التحقيقات والمحاسبة تتربص به أو بها حتى وهو أو هي في السلطة. لن تكون السنة المقبلة سنة راحة لمن يفوز بالبيت الأبيض. التهم ضد كلا المرشحين تلاحقهما من «الفساد» ضد كلينتون، إلى «الاحتيال» على القانون للتملص الكامل من دفع ضرائب ضد ترامب.

لن نعرف نتيجة التصويت قبل يوم التصويت في منافسة كهذه، محمّلة بالهجومية والمفاجآت. فإبرة البوصلة أصبحت الآن في حال خفقان في أعقاب قنبلة مكتب التحقيقات الفيديرالية يوم الجمعة الماضي، ولا أحد يعرف أية مفاجأة ستتحوّل إلى قنبلة أخرى من الآن إلى يوم التصويت الأسبوع المقبل. فإذا لم تقع مفاجآت جديدة، ستفوز كلينتون على الأرجح بالرئاسة رغم التحوّلات الأخيرة. هذا لا يعني أن من الحكمة استبعاد فوز ترامب، بل إن من الجهل الرهان القاطع على خسارة مضمونة له. إبرة البوصلة ما زالت في اهتزاز.

فماذا ستكون عليه رئاسة ترامب، إذا انتخب رئيساً، على صعيد القيادة العالمية؟ مقال الجمعة الماضي تطرق إلى فرضية فوز كلينتون بالرئاسة ونوعية قراراتها ذات العلاقة بالسياسة الخارجية، بدءاً بالعلاقة الباردة مع روسيا بوتين وانتهاءً بكيفية تأثير ذلك في سورية ومروراً بالعلاقة الأميركية – الخليجية – الإيرانية وإعادة صوغ العلاقات مع مصر وليبيا.

دونالد ترامب سيختزل المسائل الدولية إلى تصنيف الأبيض والأسود، ذلك أن الرمادية لا تتماشى مع مبدأ التفكيك الذي يميّز معظم سياساته. فهو يريد تفكيك الأسس المالية للعلاقة بين حلفاء حلف شمال الأطلسي «ناتو» كي لا تتحمل الولايات المتحدة ذلك القدر من عبء مسؤولية الإنفاق. ويريد تفكيك العلاقة بين منظمة الأمم المتحدة والدولة المضيفة من ناحية الالتزامات النقدية ومن ناحية الامتيازت التي تتلقاها الأمم المتحدة في نيويورك. ويريد تفكيك النظام العالمي القائم ليعاد صوغه بناءً على الشعبوية التي يستخدمها ليركب الموجة وليس لأنه بعيد حقاً من النخبوية. حتى في مسائل بجدية المظلة النووية في شرق آسيا، يبقى ترامب متماسكاً في مبدأ تعامله وأسس فكره وهو: التفكيك.

وهذا تماماً ما يزيد من إعجاب بوتين بترامب، ليس لأن بوتين يشبه ترامب في تبني مبدأ التفكيك، وإنما لأن ترامب يشبه بوريس يلتسن الرئيس السابق للاتحاد السوفياتي الذي ارتبطت سمعته بتفكيك الاتحاد. بالنسبة إلى موسكو، سيكون ترامب الهدية التي لا تكف عن العطاء فهو جاهز لإيلاء المهمة – أية مهمة – إلى بوتين في سورية بتجاهل تام لكلفة مثل هذه السياسة على سورية وتداعياتها على الوزن الأميركي في الشرق الأوسط ككل.

لا يبالي ترامب بدول مجلس التعاون الخليجي ولا يبالي بإيران. أولوياته التي تجلَّت في حملته الانتخابية ركّزت على الهجرة والإرهاب وتأجيج الخوف منهما ليقدم نفسه الرئيس الذي سيحمي أميركا من «الغرباء»، لا سيما المسلمين. سيأخذ ترامب الرئيس الانعزالية إلى مرتبة جديدة مرعبة. سيكون رئيساً إقصائياً وانعزالياً بامتياز، على صعيد العلاقات مع الخارج. وداخلياً، سيبدأ بتطبيق مبدأ التفكيك، مثل تفكيك «أوباما كير» للتأمين الصحي، من دون أن يضع خطة بديلة تسبق التفكيك.

كل هذا يبقى في إطار الوعود الانتخابية القابلة للاضمحلال لأن البنية السياسية الأميركية لا تسمح لأي رئيس كان بأن يتحوّل إلى ديكتاتور يملي ما يحلو له. فالولايات المتحدة دولة لا تعطي صلاحيات قاطعة للرئيس، بل هي دولة توازن الصلاحيات بين مختلف أماكن السلطة الحكومية مثل السلطة التشريعية (الكونغرس) والسلطة التنفيذية (الإدارة) والسلطة القضائية (المحكمة العليا). لذلك، هناك من يعتقد بأن حجم الخوف من رئاسة ترامب مفرط به وأن واقع مؤسسة الحكم الجماعي يحول دون تحوّل ترامب إلى رئيس كامل الصلاحيات الاستثنائية. وهناك من يصر على أن الخوف الكبير في محله لأن ركائز النظام العالمي برمتها ستهتز إذا وصل إلى البيت الأبيض رئيس إقصائي واستفزازي جاهز لسحب المسدس من جيبه باعتباطية. وهذا كافٍ لإطلاق حال اللااستقرار عالمياً.