IMLebanon

مِن تراجُع الاستقطابات الحادّة إلى التباسات “الاستبلشمنت”

 

سنوات باتت تفصل اللبنانيين عن مرحلة الاستقطاب الداخلي الحاد. لا يعني هذا أنّهم تجاوزوا المحاور الأساسية التي دار حولها هذا الاستقطاب، وفي مقدمها الخلاف حول اعتماد أو عدم اعتماد مبدأ احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي. ولا يعني أن ثمّة استقطاباً بديلاً مرشّحاً للحلول مكان عناوين الخلاف “السيادي – الممانع” التي ما فتئت محورية، لكنها لم تعد حيوية مقارنة بما كانت عليه الحال قبل عشر سنوات مثلاً، ليس فقط لامتياز “صاحب السلاح” بمجرد انه كذلك، وليس فقط لأنه، منذ 2013، ظهرت التناقضات الكابحة لاستمرار العمل الجبهوي بين سائر القوى السيادية كما كانت عليه الحال في السنوات الثماني الاولى بعد الجلاء السوري، بل لأن “للعمر حقه” قبل كل شيء آخر، ولا يمكن ان يبقى اي مجتمع في حالة استقطاب سياسي ومجتمعي مثابر على الدرجة نفسها من الحيوية والثبات لاثني عشر عاماً.

 

وهذا تحديدا ما بات يفصلنا عن سياق انتخابات حزيران 2009. يومها، قد بدأت تظهر عناصر التلف في الاستقطاب السياسي العام، لكنها كانت في نفس الوقت اكثر انتخابات استقطابية في تاريخ لبنان. صحيح ان الحماسة الانتخابية سوف ترتفع بشكل او بآخر كلما اقتربنا من موعد الاستحقاق اليوم، بيد ان هذا شيء، واستئناف الاستقطاب الشامل شيء آخر.

 

ما يظهر في المقابل اليوم هو طلائع من “الحدّية الخطابية”، ليس فقط لان الاستحقاق بدأ يقترب، وقانون الانتخاب عويص، ولم تسبق تجربته، ومن الصعب استشراف نتائجه مسبقاً، لو مهما قيل، بل ايضاً لاننا واقعون في هذه المعادلة: الاستقطاب حول “السلاح” و”السيادة” لم يعد حيوياً اليوم، لكنه لن يصبح استقطاباً “سابقاً” في امد منظور. وفي نفس الوقت “البدائل” عن هذا الاستقطاب، التي تتراوح بين “تلافي اعادة طرحه” وبين “طرحه بشكل مختلف”، ليست من النوع الذي يمكن ان يوجد استقطاباً بديلاً عن ذلك الذي حكم اللعبة في الانتخابات السابقة، قبل تسع سنوات.

 

بالتوازي، فإن الفراغ الدستوري وما تبعه من تسويتين رئاسية وحكومية اظهرت اموراً في غاية الاهمية. منها ان هناك نمطاً من انماط الدولة قائم في لبنان، ولا يمكن القول بأن الدولة فيه غير مكتملة، ولو كانت متصدعة في بنيانها ومعطلة في العديد من وظائفها. واكثر من هذا، صار من الجائز اعادة طرح السؤال حول تشكل نوع من “مؤسسة للحكم” او “استبلشمنت” في لبنان. وهذا المفهوم لم ينل يوماً حداً ادنى من الاتفاق على تحديده في علم الاجتماع السياسي، لكنه يعني نخبة او مجموعة نخب، تلعب دوراً مرجعياً ومتماسكاً في ما بينها الى حد كبير، في مؤسسات وأجهزة ومرافق الدولة، وعندها منسوب معين من عدم التأثر بالمآلات الانتخابية، او حتى بتبدل الاشخاص على رأس المؤسسات.

 

يختلف مفهوم “مؤسسة الحكم” او “الاستبلشمنت” عن كل من مفهومَي “الطبقة السياسية” و”الدولة العميقة”، ولو كانت هذه المفاهيم الثلاثة هي من النوع الذي ينبغي تناوله بحذر ومحاولة تحديد ما المقصود منه عند كل استخدام، لا سيما وأنها مفاهيم تجتذب الكثير من الالتباس والغموض، وكثيراً ما تستخدم لغايات سجالية.

 

يبقى ان لمفهوم “الاستبلشمنت” تمايزه، فهو لا يفيد بالضرورة “دولة داخل الدولة” كمفهوم الدولة العميقة، وليس مفهوماً سجالياً فحسب، كمفهوم “الطبقة السياسية”. وفي لبنان اليوم، قوى بات يمكن وصفها بأنها “استبلشمنتية” نسبة الى قوى اخرى، لها رجل في “الاستبلشمنت” ورجل خارجه. رسوخ ثقافة استبلشمنت سياسي له مع ذلك حدود يقف عندها في الاوضاع اللبنانية، مثلما ان علاقة القوى الاستبلشمنتية ببعضها البعض ليست علاقة انكماش على بعضها البعض بازاء القوى الاقل انتماءً الى الاستبلشمنت.

 

الاستحقاق القادم هو محك اساسي لبلورة ثقافة الاستبلشمنت هذه، بما لها وما عليها بالنسبة الى التركيبة اللبنانية. لكنه يظهر من الحدة الخطابية السياسية بين بعض القوى المندرجة في الاستبلشمنت في الفترة الاخيرة، على خلفية مسائل ادارية او على خلفية عرض فيلم سواء بسواء، انه حتى هنا، وبلحظة واحدة يكون المشكل فرعياً، وجزئياً، فيتحول الى دستوري، ويظهر هشاشة اساسية يقف عليها الجميع: هشاشة العقد الاجتماعي، رغم منسوب من الاستقرار، سمح بظهور شيء من “ثقافة الاستبلشمنت”، بما لها وما عليها، في السنوات الاخيرة.