في معركة الانتخابات الرئاسية عام 1943 كانت المنافسة محصورة بين اثنين هما: بشارة الخوري وإميل اده.. وما يمكن تأكيده أن المناورات كانت على أشدها بين اللاعبين اللبنانيين وبين النفوذيْن البريطاني والفرنسي، وكان واضحاً كما يؤكد الوزير والنائب الراحل يوسف سالم أن كفة بشارة الخوري كانت راجحة على كفة إميل اده بسبب نشاط سبيرز المتزايد وتضاؤل النفود الفرنسي يوماً بعد يوم.
وكان واضحاً أمام اده أن الأغلبية هي لصالح الخوري، وبالتالي كان عليه أن يعمل بشتى الوسائل للحؤول دون وصول بشارة الخوري، فأقدم كما يقول كميل شمعون على خطوة لم يعرف كيف يكملها، فأبلغ سبيرز رغبة منه في توفير الإجماع لرئيس الجمهورية الجديد، موافقته على سحب ترشيحه شرط أن ينسحب الشيخ بشارة الخوري بدوره من المعركة، ثم اقترح ثلاثة يتم اختيار أحدهم رئيساً للجمهورية، وكنت أحد هؤلاء فوافق الشيخ بشارة الخوري على الاقتراح وأصبحت طوال 48 ساعة المرشح الوحيد، ويؤكد يوسف سلام: أن الفرنسيين أصروا على رفض بشارة الخوري.. فأرتأى بيرز وكانت مناورة بارعة منه لم يطلع أحداً عليها، أن يكون مرشحه لرئاسة الجمهوري كميل شمعون وسأل الشيخ بشارة أن ينسحب له، فوافق على مضض.
ويقول بشارة الخوري إن منافسي (إميل اده) عمد إلى ضربة معلم فتمت في 16 أيلول أي قبل خمسة أيام دعوة مستعجلة لمقابلة سبيرز، الذي قال: إن معلوماتي تفيد أن من الصعب عليك الفوز بالأكثرية وقد زارني هذا النهار مزاحمك إميل اده وأبلغني أنه مستعد للانسحاب لواحد من أربعة هم: كميل شمعون، حميد فرنجية، يوسف اسطفان، أمين السعد، وإذ أبدى الخوري استعداده للانسحاب لصالح شمعون شرط توقيع اتفاق يوقعه اده، إلا أنه يؤكد أنه في وقت لاحق استدعي من قبل هيللو إلى قصر الصنوبر، وأعلمه هذا الأخير برفض شمعون خويصة الإنكليز، وطلب منه باسم فرنسا أن يرجع عن تنازله لمصلحة شمعون..
وهكذا بعد أن نام كميل شمعون كما يؤكد هو نفسه لمدة 48 ساعة رئيساً عاد ورسى الخيار على بشارة الخوري.
سياسيون متبدلون
بأي حال، هل مكتوب على اللبنانيين أن يبقوا ضحية تبدل مزاج طبقية سياسية معينة، تتلاعب بمصير البلاد والعباد مع كل استحقاق رئاسي.
لعل في تجارب لبنان السياسية منذ أن كان صغيراً ثم صار لبنان الكبير ثم الجمهورية اللبنانية، ما يكفي لأن يتحول هذا الاستحقاق إلى ممارسة ديمقراطية فعلية حقيقية في إنقاذ البلاد وتطوير النظام السياسي.
على الدوام كان بين الساسة اللبنانيين رهط يعرف كيف يحول صداقاته، كيف ينتقل من مكان إلى آخر بسرعة الريح.. ففي زمن المنافسة البريطانية – الفرنسية، كان هناك من يجيد صداقة الطرفين، وقبلها أيضاً كان هناك من يجيد العلاقة مع طرفين متناقضين.
ومن الأمثلة على ذلك، أنه في العام 1920 عند إعلان دولة لبنان الكبير وعندما جمع الملك فيصل في الشام المؤتمر السوري كان هناك يوسف نمور عضواً في المؤتمر السوري فيما كان شقيقه موسى عند الفرنسيين ومن أشد أنصارهم في البقاع.
وكان أسعد حيدر عضواً في المؤتمر السوري ونجله عضواً في اللجنة الاستشارية الفرنسية في لبنان.
وكان اسكندر عمون مع الإنكليز وشقيقه داود مع الفرنسيين، وفيما بعد كانت رجل كميل شمعون في فلاحة الإنكليز ورجله الأخرى في بور الفرنسيين إلخ..
وإذا كان يقر للفرنسيين «بمكرمة نبيلة» كما يقول اسكندر رياشي، هي أنهم لم يفضحوا الذين انقلبوا فيما بعد بل أرسلت المفوضية الفرنسية سنة 1941 أوراقها وسجلاتها تحرقها في أتون النار في هضاب بيت مري كي لا تقع في أيدي الذين يأتون بعدها.. ومن هذه الأوراق ذلك السجل الذهبي الذي يتضمن أسماء جميع الذين كانوا يخدمونها ويبيعونها البلاد بالخفاء بينما يتظاهرون أمام الناس بالنزاهة والوطنية المستقلة التي لا تتقبل انتداباً.